للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويهمنا ما وقف عنده صفوان والجاحظ بعده من محاجّة واصل لخصومه من أرباب الملل: من الحروريّة ورافضة الشيعة والمرجئة، فقد انبثقت من الوعظ شعبة من الجدل فى العقيدة، هيأت لظهور علم التشاجر كما يقول صفوان أو علم الكلام كما اصطلح المتأخرون، فظهر القدرية بزعامة الحسن البصرى، وظهر المرجئة بزعامة غيلان الدمشقى وغيره من دعاة هذا المذهب فى العراق وخراسان.

وفى كل مكان نسمع عن مجادلات أصحاب هذه الفرق بعضهم مع بعض، ومع الخوارج والشيعة وبعض خلفاء بنى أمية (١). واحتدمت هذه المجادلات احتداما شديدا، وقد احتفظت الكتب ببقايا منها تدل دلالة بينة على أنها شحذت العقول كما شحذت الألسنة، ومن خير ما يصورها محاورة واصل بن عطاء مع عمرو ابن عبيد بمجلس الحسن البصرى فى مرتكب الكبيرة، وكان الحسن يراه مؤمنا فاسقا، ويراه الخوارج كافرا، وتراه المرجئة مؤمنا غير فاسق ولا كافر، لأنهم كما قدمنا كانوا يفصلون الإيمان عن العمل. ورأى واصل أن مرتكب الكبيرة فى منزلة وسطى بين منزلتى المؤمن والكافر، فهو ليس مؤمنا ولا كافرا. وكان عمرو بن عبيد من تلاميذ الحسن البصرى، فجمع بينه وبين واصل ليناظره فى رأيه. ويقص علينا المرتضى هذه المناظرة (٢)، ويقدم لها بأن واصلا أقبل ومعه جماعة من أصحابه إلى حلقة الحسن وفيها عمرو بن عبيد، فحاوره فى رأيه، وردّ عليه واصل ردّا مفحما مستخدما بعض آى الذكر الحكيم، شافعا ذلك بقياس منطقى دقيق. واقتنع عمرو فترك مقالة الحسن إلى مقالة واصل، وأصبح بعد ذلك من رءوس المعتزلة.

والحق أن واصل بن عطاء يعدّ رمزا لكل ما أصاب عقل الوعّاظ وأصحاب المقالات فى هذا العصر من دقة لا فى مناظراته ومحاوراته فحسب، بل أيضا فى آزائه، فإن فكرة المنزلة بين المنزلتين التى وضع فيها مرتكبى الكبائر فكرة لا يؤتاها إلا من استبصر المعانى وعرف حدودها ومقاديرها ومداخلها ولطائفها، وكان واصل يجمع إلى ذلك قدرة واسعة فى الجدل والظفر بخصومه، وهو ظفر


(١) انظر كتابنا «الفن ومذاهبه فى النثر العربى» (طبع دار المعارف) ص ٧٩.
(٢) أمالى المرتضى ١/ ١٦٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>