للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سنوات يعود بعدها إلى البصرة ويظل بها حتى وفاته سنة ١١٠ للهجرة ويخلص للدرس الدينى، ولا يترك نبعا من ينابيعه دون أن يرتشفه ارتشافا، وسرعان ما يصبح واعظا كبيرا ويقبل عليه شباب البصرة إقبالا منقطع النظير. ولا نصل إلى عصر الحجاج حتى يصبح أكبر واعظ فى مصره إذ كان لا يجارى فى بلاغته وبيانه.

ويكبره عصره كما تكبره العصور التالية لزهده الذى لم يكن يتعمّل فيه ولا يتكلف، زهد بناه على آداب الإسلام، إذ استقاه من مناهله الحقيقية فى المدينة دار النبوة، ومن ثمّ أخذت الفرق الدينية تتنازعه، حتى تسوّغ آراءها فى عقول الناس، فكل فرقة تنسب إليه من عقائدها ما يجعله ينتظم بين روّادها الأولين، فالجبرية يقولون إنه كان ينفى حرية الإرادة ويذهب إلى أن كل شئ بقضاء من الله، ويقول القدرية إنه من القائلين بحرية الإرادة وأن الإنسان حر مختار فى أفعاله، ويجعله الصوفية إمامهم.

ونستطيع أن نستخلص من النصوص المتضاربة أنه كان قدريّا، إذ كان يقول من زعم أن المعاصى من الله جاء يوم القيامة مسودّا وجهه، ولو كان من الجبرية ما نوّه به الجاحظ المعتزلى هذا التنويه العريض الذى نلقاه دائما كلما ذكره فى صفحات كتابه البيان والتبيين. ويزعم صاحب «المنية والأمل» أن الحجاج كتب إليه يسأله عن رأيه فى القدر، فكتب إليه رسالة ضمّنها ما كان يراه من حرية الإرادة والعدل على الله (١)، وتلتقى بهذه الرسالة فى نفس المعنى رسالة يقال إنه أرسل بها إلى عبد الملك (٢).

والذى لا شك فيه أن الحسن كان أحد أئمة الزهاد فى عصره وأنه كان يدعو إلى الزهد فى الحياة الدنيا دعوة واسعة، ولكنه لم يكن متصوفا، فالتصوف شئ والزهد شئ آخر، حقّا كل متصوف زاهد، ولكن ليس كل زاهد متصوفا، ومعروف أن التصوف إنما نشأ بعد عصره. وقد صوّر إحسان عباس شخصيته الزاهدة تصويرا دقيقا مبينا كيف صرف نفسه عن متع الحياة وكيف تعمقته تجربة الزهد وكيف مضى يدعو إليه فى مواعظه دعوة لا تفتر. وكانت


(١) المنية والأمل لابن المرتضى (طبع حيدر آباد) ص ١٢.
(٢) انظر مصورة هذه الرسالة فى دار الكتب المصرية برقم ٥٢٢١ أدب.

<<  <  ج: ص:  >  >>