للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«إن الله انتجبك (١) من جوهرة كرم، ومنبت شرف، وقسم لك خطرا (٢) شهرته العرب، وتحدثت به الحاضرة والبادية، وأعان خطرك بقدرة مقسومة، ومنزلة ملحوظة، فجميع أكفائك من جماهير العرب يعرف فضلك، ويسرّه ما خار (٣) الله لك، وليس كلهم أداله (٤) الزمان ولا ساعده الحظ. وأحقّ من تعطّف على أهل البيوتات، وعاد لهم بما يبقى له ذكره، ويحسن به نشره، مثلك. وقد وجّهت إليك فلانا، وهو من دنية (٥) قرابتى، وذوى الهيئة من أسرتى، عرف معروفك، وأحببت أن تلبسه نعمتك، وتصرفه إلىّ، وقد أودعتنى وإياه ما تجده باقيا على النّشر، جميلا فى الغبّ» (٦).

وتدل هذه الرسالة دلالة واضحة على أن كتّاب الرسائل الشخصية أو على الأقل طائفة منهم كانت تعنى عناية شديدة باختيار ألفاظها وتنسيقها، متوسلة إلى ذلك بكل ما تستطيع من انتخاب الألفاظ الرشيقة وإحداث التوازن الموسيقى فى الكلام، مع دقة التعبير وتجليته عن المعنى، والفقه الحسن بمداخل التأثير فى نفس القارئ وما ينبغى أن يسلك إليه الكاتب من طرق كى يستولى على عقله، فيقضى له حاجته. وممن اشتهر فى هذا اللون من الرسائل الشخصية عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر الذى قتل بخراسان بأخرة من هذا العصر، فقد كان لسنا بليغا، يعرف كيف يحوك الكلم ويصوغه صياغة باهرة على نحو ما نجد فى هذه الرسالة التى كتب بها إلى بعض إخوانه معاتبا، إذ يقول (٧):

«أما بعد فقد عاقنى الشكّ فى أمرك عن عزيمة الرأى فيك، ابتدأتنى بلطف عن غير خبرة، ثم أعقبتنى جفاء عن غير ذنب، فأطمعنى أوّلك فى إخائك، وأيأسنى آخرك من وفائك، فلا أنا فى اليوم مجمع لك اطّراحا، ولا أنا فى غد وانتظاره منك على ثقة، فسبحان من لو شاء كشف بإيضاح الرأى فى أمرك عن عزيمة فيك، فأقمنا على ائتلاف، أو افترقنا على اختلاف، والسلام».


(١) انتجبك: اختارك.
(٢) خطرا: قدرا.
(٣) خار الله لك: جعل لك فيه الخير.
(٤) أداله: نصره وأعانه.
(٥) دنية: لاصق.
(٦) الغب: العاقبة.
(٧) البيان والتبيين ٢/ ٨٤

<<  <  ج: ص:  >  >>