للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حلوها، وخشن ليّنها، ففرّقتنا عن الأوطان، وقطّعتنا عن الإخوان، فدارنا نازحة، وطيرنا بارحة (١)، قد أخذت كلّ ما أعطت، وتباعدت مثلما تقرّبت، وأعقبت بالراحة نصبا (٢)، وبالجذل (٣) هما، وبالأمن خوفا، وبالعزّ ذلاّ، وبالجدة (٤) حاجة، وبالسرّاء ضراء، وبالحياة موتا، لا ترحم من استرحمها، سالكة بنا سبيل من لا أوبة له، منفبّين عن الأولياء، مقطوعين عن الأحياء».

والرسالة تحمل جميع خصائص عبد الحميد التى تميّز بها فى أسلوبه ومعانيه، فالألفاظ منتخبة وليس فيها توعّر ولا غريب وحشىّ، وإنما فيها العذوبة والحلاوة. والمعانى غزيرة مرتبة ليس فيها غموض ولا خفاء، وإنما فيها الوضوح وانكشاف الدلالة. وهو يعنى بالترادف فى أسلوبه ترادفا ينتهى به إلى ازدواج واضح، ازدواج من شأنه أن يؤكّد المعانى بما يحمل من معادلات موسيقية تثبّتها فى الذهن وتجلوها جلاء تامّا. وهو يضيف إلى ذلك حلى من طباقات وتصويرات تضفى على أسلوبه روعة بيانية خلابة، بل إننا لا ندقق فى القول حين نزعم أنه يضيف هذه الحلى، فإنها عنده جزء لا يتجزأ من جوهر الكلام، وكأنها سداه ولحمته. والحق أن عبد الحميد أوفى بالكتابة الأدبية فى العصر الأموى على كل ما كان ينتظر لها من رقى وإبداع فنى.


(١) الطير البارحة: التى تمر من اليمين إلى اليسار، والعرب القدماء كانوا يتشاءمون بها.
(٢) نصبا: تعبا
(٣) الجذل: السرور.
(٤) الجدة: الميسرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>