للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أسلحته وخيله من صفات، وكأنه ينثر أشعار أوس بن حجر وغيره من الجاهليين فيها نثرا. ومن هذا الباب رسالته (١) التى وصف بها الصيد، وجوارحه ومعاركها مع الظباء والآرام وحمر الوحش، وما وقعوا عليه من بعض الغدران والرياض وما أصابهم من بعض الأمطار، وكأنه يتحدث بلسان امرئ القيس وزهير ومن على شاكلتهما من الشعراء الجاهليين.

والحق أن النثر الفنى تطور تطورا واسعا عند عبد الحميد، فقد تحولت الرسائل عنده إلى رسائل أدبية حقيقية تكتب فى موضوعات مختلفة من الإخاء وقيادة الحروب والصيد. وهى لا تكتب فى ذلك كتابة موجزة، فلم تعد الكتابة وحدها كافية، بل أصبح أساسا فيها أن تسند بالتفنن فى القول وتشعيب المعانى معتمدة على ثقافات مختلفة: أجنبية وعربية. وأخذت تزحم الشعر وتحاول أن تقتحم عليه ميادينه أو على الأقل بعض هذه الميادين، إذ نرى عبد الحميد يجرى قلمه فى وصف الخيل والسلاح ووصف الصيد. ودائما تروعنا براعته البيانية، ولا نستطيع أن ننقل إلى القارئ إحدى رسائله الأدبية الطويلة ليتبين هذه البراعة، غير أنه ينبغى أن لا نمضى دون تقديم نموذج من كتابته، ونحن نسوق للقارئ هذه الرسالة (٢) التى كتب بها إلى أهله يعزّيهم عن نفسه، وهو منهزم مع مروان:

«أما بعد فإن الله جعل الدنيا محفوفة بالكره والسرور، وجعل فيها أقساما مختلفة بين أهلها، فمن درّت (٣) له بحلاوتها، وساعده الحظّ فيها سكن إليها ورضى بها، وأقام عليها، ومن قرصته بأظفارها، وعضّته بأنيابها، وتوطأته بثقلها، قلاها (٤) نافرا عنها، وذمّها ساخطا عليها، وشكاها مستزيدا منها، وقد كانت الدنيا أذاقتنا من حلاوتها وأرضعتنا من درّها أفاويق (٥) استحلبناها، ثم شمست (٦) منا نافرة، وأعرضت عنا متنكرة، ورمحتنا (٧) مولّية، مالح عذبها، وأمرّ


(١) جمهرة رسائل العرب ٢/ ٥٤٤.
(٢) الجهشيارى ص ٧٢.
(٣) درت: من الدر وهو اللبن.
(٤) قلاها: كرهها وأبغضها.
(٥) الأفاويق: ما يتجمع فى الضرع من اللبن.
(٦) شمست: من شمس الفرس إذا جمح.
(٧) رمحتنا: من رمحه الفرس إذا ركله.

<<  <  ج: ص:  >  >>