للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيه عبد الحميد بما قرأه فى أدب الفرس السياسى من وصايا وتعاليم، كانوا يديرونها فى كتبهم. هى خلاصة تجاربهم فى حروبهم وسياسة حكّامهم وماوكهم.

وقد شفعها بتعاليم الإسلام الزّكيّة واطّرد له فيها أسلوبه المرن الشفاف الذى لا يحجب شيئا من الفكرة، بل يوضّحها من جميع شعبها وأطرافها بما أتيح له من بيان باهر استطاع أن ينفذ من خلاله إلى صياغة محكمة، وهى صياغة لا تكاد تفترق فى شئ عن صياغة الحسن البصرى وواصل بن عطاء وأضرابهما من الوعاظ الذين ألانوا اللغة ومرّنوها لأداء معانيهم، وكأنما تحوّل إلى عبد الحميد أسلوبهم، حتى أصبح لا يفترق عنهم فى شئ، فهو يزاوج فى ألفاظه، وهو يتخذ إلى ذلك طريقتهم فى الترادف، موشّيا كلامه بالصور والطباقات والمقابلات الكثيرة.

وقد حاول طه حسين أن يصل عبد الحميد بالثقافة اليونانية (١)، معتمدا فى ذلك على تقسيمه الجيش إلى وحدات كل وحدة مائة على شاكلة ما كان معروفا عند اليونان، وعلى أنه بالغ فى استخدام الحال ونشرها فى كلامه.

ويضعف الحجة الأولى أن عبد الحميد كان يعيش فى الشام، وكانت الحروب قائمة بين العرب والبيزنطيين منذ الفتوح، وكان العرب بعامة يعرفون نظم الجيوش عند البيزنطيين والفرس جميعا، فمعرفة عبد الحميد بذلك لا تصله مباشرة بالثقافة اليونانية. أما مسألة استخدامه الحال فلم يوضّح طه حسين كيف كانت خاصة من خصائص اللغة اليونانية، ومعروف أنها من خواصّ اللغة العربية، وهى شائعة فى الشعر الجاهلى والقرآن الكريم، ومرّت بنا قطع من كتابات سالم وابنه عبد الله، وفيها الحال واضحة. والحق أن عبد الحميد إذا كان قد اتصل بالثقافة اليونانية، فعن طريق غير مباشر، نقصد طريق أستاذه سالم الذى كان يحسنها وينقل عنها أحيانا على نحو ما مرّ بنا.

وليس من شك فى أن صلة عبد الحميد بالثقافة الفارسية أوضح منها بالثقافة اليونانية. وكان يضيف إلى ذلك ثقافة واسعة بالشعر العربى، وهى تتضح فى رسالة ولى العهد السالفة حين نراه يقف ليفصّل له ما ينبغى أن تكون عليه


(١) من حديث الشعر والنثر ص ٤٠ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>