للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المجون-على أنواعها المحرمة بإجماع الفقهاء.

والمعروف أن الهادى أول خليفة عباسى أغرى بالخمر (١)، وتبعه الرشيد (٢) ومن جاءوا بعده، وأغلب الظن أنهم لم يكونوا يتجاوزون الأنواع المحلّلة إلى الأنواع المحرمة إلا ما كان من الأمين الذى كان يعيش للخمر المسكرة يشربها أرطالا (٣)، وكأنما كان فى قلبه جذوة من الغرام بها لا سبيل إلى إطفائها إلا بشرابها متتابعا، حتى ليصل أحيانا مساءه فيها بصباحه، حدّث ابن المعتز أنه اصطبح بها يوما مع أبى نواس وطائفة من ندمائه: «فأتى بالشراب كأنه الزعفران، أصفى من وصال المعشوق وأطيب ريحا من نسيم المحبوب، وقام سقاة كالبدور بكئوس كالنجوم فطافوا عليهم، وضربت المغنيات خلف الستائر بمزاهرها. فشربوا معه من صدر نهارهم إلى آخره فى مذاكرة (أحاديث) كقطع الرياض، ونشيد كالدرّ المفصّل بالعقيان، وسماع يحيى النفوس ويزيد فى الأعمار. فلما كان آخر النهار دعا بعشرة آلاف دينار فى صوانىّ فأمر فنثرت عليهم فانتهبوها والشراب-بعد- يدور عليهم بالكبير والصغير من الصرف والممزوج» حتى إذا نام واستيقظ فى السحر طلب إلى أبى نواس أن ينشطه إلى متابعة السكر ببعض الأبيات، فأنشده:

نبّه نديمك قد نعس ... يسقيك كأسا فى الغلس

صرفا كأن شعاعها ... فى كفّ شاربها قبس

تذر الفتى وكأنما ... بلسانه منها حرس

يدعى فيرفع رأسه ... فإذا استقلّ به نكس

فهش الأمين ونشط ودعا بالشراب يصطبح به لليوم التالى وينعم بنشوته (٤)، غير مفكر فى وقار خلافة ولا فى دين، فقد احتلت قلبه وبسطت سلطانها عليه فأحبها وهام بها هياما.

والأمين فى خمره ومجونه ليس شذوذا فى عصره بل هو امتداد لموجة حادّة


(١) الجهشيارى ص ١٤٤ والطبرى ٦/ ٤٣٠، ٤٣٥ وقارن بالأغانى ٥/ ١٦٠ والطبرى ٦/ ٣٢٩.
(٢) طبرى ٦/ ٤٨٩ وأغانى ٥/ ٢١٦، ٢٢٤، ٢٩٩، وطبرى ٧/ ٢١٥ وأغانى ٥/ ٣٢٩، ٣٤٢، ٣٥٥.
(٣) الجهشيارى ص ٢٩٩ والمسعودى ٣/ ٣٠٥.
(٤) طبقات الشعراء لابن المعتز ص ٢١٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>