للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبكى ذلك طويلا فى أشعاره. على أن تدخل المهدى جاء متأخرا، فقد عمّ طوفان هذا الغزل لا فى البصرة والكوفة وحدهما بل أيضا فى بغداد عند أبى نواس وأضرابه، بحيث عدّ ظهور العباس بن الأحنف بغزله الطاهر العفيف شذوذا على جيله ومجتمعه.

وليس معنى ذلك أن الحياة فى بغداد كانت كلها مجونا وتهالكا على الفجر والعهر، فإن تعدد الزوجات الذى أباحه الإسلام وما أعطاه للرجل من حق تسرّى الجوارى، كل ذلك كان يحول دون سقوط بغداد جميعها فى هوة الفساد، ومن أجل ذلك ينبغى أن لا نبالغ فى تصور موجة المجون والعبث حينئذ وأن نظن أن أهل بغداد جميعا قد تخلوا عن الحياة المستقيمة الطاهرة التى يحوطها الخلق والتقاليد والدين، إنما هو الكرخ حيث بيوت النخاسين والمقينين ومن يفدون عليها من الفتيان والشعراء للشراب والمجون فى غير استخفاء ولا حياء.

وقد أشاع هؤلاء المجان والخلعاء آفة مزرية هى آفة التعلق بالغلمان المرد، وكان أول من اشتهر بالغزل فيهم والبة بن الحباب، وهو يصرح بذلك تصريحا فى غير مواربة ولا استحياء (١)، ويقال إنه هو الذى يتحمل وزر إفساد أبى نواس، بل هو فى رأينا الذى يتحمل وزر العصر كله وما شاع فيه من هذا الغزل المقيت الذى يخنق كرامة الشباب والرجال خنقا. وربما كان من أسباب شيوعه كثرة الغلمان الخصيان فى بغداد وغيرها من مدن العراق، وكان منهم من تسقط عنه رجولته حتى ليلبس لبس النساء. وكان من الجوارى من يلبس لبس الغلمان لفتا للشباب والرجال، ويروى أن الأمين حين أفضت إليه الخلافة قدّم الخصيان وآثرهم، فشاعت قالة السوء فيه، ورأت أمه زبيدة درءا لتلك القالة أن تبعث إليه بعشرات من الجوارى، ألبستهن لبس الرجال، حتى ينصرف عن الخصيان فكن يختلفن بين يديه، وأبرزهن للناس، ولم يلبث كثيرون أن جاروه فى هذا الصنيع (٢)، وكن يسميّن بالغلاميات، وعمّت هذه البدعة فى الساقيات (٣) بالحانات، ولعل ذلك هو السر فى أن أبا نواس كثيرا ما يتحدث عن بعض


(١) البيان والتبيين ٣/ ٢٢٠ وانظر ترجمته فى الأغانى (طبع الساسى) ١٦/ ١٤٢.
(٢) المسعودى ٤/ ٢٤٤.
(٣) أغانى ٥/ ٣٣٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>