للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إليه ولا فتنة يستهوى بها إلا القيان لكفاه» (١). ويمضى الجاحظ فيصور العلة التى جرّت إلى فجر القينة وتهالكها على الإثم وأوزاره، فيقول: «كيف تسلم القينة من الفتنة أو يمكنها أن تكون عفيفة وإنما تكتسب الأهواء وتتعلّم الألسن والأخلاق بالمنشأ، وهى إنما تنشأ من لدن مولدها إلى أوان وفاتها فيما يصدّ عن ذكر الله من لهو الحديث. . . وبين الخلعاء والمجّان ومن لا يسمع منه كلمة جدّ، ولا يرجع منه إلى ثقة ولا دين ولا صيانة مروءة، وتروى الحاذقة منهن أربعة آلاف صوت (أغنية) فصاعدا، يكون الصوت فيما بين البيتين إلى أربعة أبيات، وعدد ما يدخل فى ذلك من الشعر إذا ضرب بعضه ببعض عشرة آلاف بيت، ليس فيها ذكر الله إلا عن غفلة ولا ترهيب من عقاب ولا ترغيب فى ثواب، وإنما بنيت كلها على ذكر. . القيادة والعشق والصبوة والشوق والغلمة، ثم لا تنفكّ من الدراسة لصنعتها منكبّة عليها تأخذها من المطارحين الذين طرحهم كله تجميش وإنشادهم مراودة».

وقد دفع هذا الفساد الخلقى الذى كان يشيعه القيان والجوارى فى هذا العصر إلى انتشار الغزل المكشوف الذى لا تصان فيه كرامة المرأة والرجل جميعا، فقد كانت المرأة غير الحرة تبتذل ابتذالا، وتطورت الحياة فلم يعد العرب هم الذين يستبدون بالشعر مصورين فيه مروءتهم وارتفاعهم بالمرأة عن الصغار والامتهان، بل مضى شعراء الفرس يستبدون به، إذ كان أكثر الشعراء حينئذ منهم، فلم يعرفوا للمرأة حقها من الصيانة والارتفاع عن الفجر الفاجر، بل لعلهم كانوا يدفعونها إليه دفعا، بما كانوا ينظمون من أشعار صريحة عاهرة، على نحو ما يلقانا عند مطيع بن إياس ورفقته فى الكوفة وبشار بن برد ومعاصريه فى البصرة، وقد استحال شعر بشار إلى نداء صارخ للغريزة الجسدية، نداء يندى له جبين الشرف والخلق مما جعل وعاظ بلدته من أمثال واصل بن عطاء ومالك بن دينار يصرخون به أن يكفّ عن غيّه، وتعالى صياحهم هم ونظرائهم حتى وصل سمع (٢) المهدى، فهدّده وأنذره أن ينزل به عقابه إن هو لم يزدجر ولم يرعو، واضطرّ أن ينزل على مشيئته


(١) ثلاث رسائل للجاحظ نشر فنكل ص ٧١.
(٢) انظر الأغانى ٣/ ١٨٢ وفى مواضع متفرقة من ترجمة بشار فى هذا الجزء.

<<  <  ج: ص:  >  >>