للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تعاليم الأفلاطونية الحديثة وما يتصل بها من مذهب الفيض ووحدة الوجود (١)، كما حاول أن يربط بين هذه المقدمات وبوذية الهند، إذ رأى فى سيرة إبراهيم بن أدهم التي صورها بعض من تحدثوا عن أخباره ما يحكى محاكاة تامة سيرة بوذا، إذ يقال إنه كان ابن ملك من ملوك بلخ ورأى من إحدى نوافذ قصره رجلا مسكينا فتدبر أمره ولم يلبث أن خلع ثوب الإمارة إلى الأبد ولبس أطمارا بالية وفارق قصره وزوجه وأولاده وأوى إلى الصحراء سائحا مطوّفا عابدا ربه (٢). وهى سيرة لابن أدهم صنعتها له الأجيال المتأخرة (٣) فلا يصح أن تحمل على العصر العباسى الأول ولا أن تتخذ دليلا على أن متصوفته كانوا يتأثرون البوذية وما ترويه عن بوذا الناسك. وقد رأى جولد تسيهر الجاحظ يروى خبرا عن ناسكين سائحين (٤) فقال إنهما من ناسكى البوذية، كى يدعم دعواه، وهما من ناسكى المانوية.

والحق أن جولد تسيهر يبالغ فى كل ما رآه من هذا الربط بين مقدمات التصوف الإسلامى والبوذية من جهة والأفلاطونية من جهة أخرى. يمكن أن يكون قد حدث ذلك فى بعض جوانب التصوف فيما بعد هذا العصر إذ كان التصوف لا يزال يستمد من معين الإسلام ذاته كما لا حظ ذلك نيكلسون (٥)، وهو حينئذ لم يكن أكثر من نمو للزهد الإسلامى وما ارتبط به من نسك، وآية ذلك القاطعة أن نظريتى الفيض ووحدة الوجود لم تمدا ظلالهما عليه حتى هذا التاريخ.

على أن هذا الزهد الإسلامى وما ارتبط به من مقدمات التصوف كانت تجرى بجانبه أسراب من زهد فاسد هو زهد الزنادقة الذين اعتنقوا تعاليم المانوية على نحو ما يلقانا فى أشعار صالح بن عبد القدوس المقتول لمانويته وهى تزخر بالترغيب عن متاع الدنيا الزائل حتى ليقول ابن المعتز إن له فى ذلك ما ليس لأحد (٦).


(١) العقيدة والشريعة فى الإسلام ص ١٣٦.
(٢) العقيدة والشريعة فى الإسلام ص ١٤٣.
(٣) قارن هذه السيرة التى حكاها جولد تسيهر بما قاله ابن تغرى بردى فى النجوم الزاهرة ٢/ ٣٦ وهو من المصادر المتأخرة، يقول: «وكان إبراهيم بن أدهم من الأشراف، وكان أبوه شريفا كثير المال والخدم والجنائب (الدواب) والبزاة، فبينما إبراهيم يأخذ كلابه وبزاته للصيد وهو على فرسه يركضه إذ هو بصوت يناديه: يا إبراهيم ما هذا العبث؟ ! أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا، اتق الله وعليك بالزاد ليوم الفاقة، فنزل عن دابته ورفض الدنيا. وانظر صفة الصفوة ٤/ ١٢٧.
(٤) الحيوان ٤/ ٤٥٦ وما بعدها.
(٥) انظر كتاب فى التصوف الإسلامى وتاريخه لنيكلسون (طبع مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر) ص ٣.
(٦) ابن المعتز ص ٩١.

<<  <  ج: ص:  >  >>