للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التشيع الباطن، بل وضع نواة غلاة الشيعة جميعا ورافضتهم الذين طالما حاجّهم وجادلهم المعتزلة فى هذا العصر. وكان له خلفاء كثيرون من جنسه مضوا يفسدون على شاكلة إفساده، بل لقد كان ممن ظلوا على يهوديتهم من يخالطون العرب فى مجالسهم (١) ويوردون عليهم بعض معتقداتهم الفاسدة من مثل التشبيه على الذات العلية (٢)، حتى ليصبح هناك قوم معروفون باسم المشبهة من الرافضة وغيرهم. وقد عنى المعتزلة طويلا بتسفيه أحلامهم ونقض ما زعموه من التشبيه على الله نقضا. وكانوا يقولون إن التوراة محدثة ومخلوقة وأكبر الظن أن المعتزلة أو نفرا منهم نقلوا عنهم هذه الفكرة فقالوا إن القرآن مخلوق (٣). وإنما يدفعنا إلى هذا الرأى أنه كان من رءوس القائلين بها ثمامة بن أشرس وبشر بن غياث المريسى المتكلم، وكان غياث يهوديّا يسكن بغداد وأسلم ابنه واشتغل بعلم الكلام والقول بخلق القرآن (٤) وما زال هو وثمامة بالمأمون حتى اعتنق هذا القول وجعله محنة وبلاء على الفقهاء والعلماء. وهو بلاء جرّ إلى صدع متفاقم بين المعتزلة وأهل السنة حتى لقد قضى قضاء مبرما على ما كان للأولين من مجد فى العصر العباسى الأول.

وقد شكا الجاحظ-على نحو ما مر بنا فى الفصل السابق-من متكلمى النصارى وأطبائهم ومنجميهم لنقلهم إلى العربية كتب المنانية والديصانية والمرقيونة المارقة، مما أفسدوا به عقول العوام، ولكن من الحق أن النصارى لم يكونوا يبطنون للإسلام من العداوة ما أبطنه اليهود على نحو ما لا حظ ذلك الجاحظ نفسه، وكان المسلمون يبرّونهم ويعاملونهم معاملة كريمة، وقد دخل منهم جمهور غفير فى الإسلام وامتزج العرب بهم وأكثروا من تسرى جواريهم مما هيأ للقاح واسع بين العناصر الإسلامية والمسيحية فى المجتمع العباسى، ولا نقصد اللقاح الدموى فحسب، بل نقصد أيضا اللقاح الثقافى، إذ نشأ جيل كبير أمهاته من المسيحيات روميات وغير روميات، وطبيعى أن يحمل هذا اجيل عن أمهاته ثقافتهن وكثيرا


(١) النجوم الزاهرة ٢/ ٢٩.
(٢) انظر الشهرستانى ص ٦٤ - ٦٥، ٧٧ حيث يقول إن التشبيه فى اليهود طباع حتى قالوا فى الله: اشتكت عيناه فعادته (فزارته) الملائكة
(٣) انظر ضحى الإسلام لأحمد أمين ١/ ٣٣٤.
(٤) النجوم الزاهرة ٢/ ٢٢٨ وقارن ب ٢/ ١٨٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>