للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المجال العربى محدودا، وحقا أن الثقافة اليونانية أهم ثقافة أثرت فى الفكر العباسى، ولكن عن طريق النقل والترجمة لا عن طريق اختلاط أصحابها بالعرب، وأيضا عن طريق ما ألقته من ظلال على الثقافة الهيلينية الشعبية العامة التى كانت سائدة فى المنطقة والتى حملت فى أطوائها معارف الكلدانيين والصابئة عن النجوم والكواكب ومعارف الشآميين والمصريين عن شئون الزراعة وما كان يتداول هنا وهناك من أقاصيص عن السحر والعرافة وما يجرى فى كل ذلك من إيمان بالغيبيات ومن نزعات روحية عميقة.

وكان يشارك فى الحياة اليومية أصحاب الديانتين النصرانية واليهودية، ويصور لنا الجاحظ فى رسالته «الرد (١) على النصارى» موقف العرب منهم حينئذ ومن اليهود فيقول إنهم كانوا أقرب من اليهود إلى العرب مودة وأسلم صدورا، فإن اليهود طووا قلوبهم على عداوة الإسلام ورسوله الكريم منذ مقامه بين ظهرانيهم فى يثرب، على حين آوى نصارى الحبشة من هاجروا إليهم من أصحاب الرسول فرارا من اضطهاد قريش ومدّوا إليهم يد البرّ والعون. ويقول إن نصارى بغداد كانوا ينهضون بالصناعات المربحة مندمجين فى حياة الخلفاء والرعية، بينما كان اليهود يحترفون الصناعات الرذيلة الحقيرة، فمن النصارى كتاب السلاطين وأطباء الأشراف والعطارون والصيارفة، أما اليهود فمنهم الصباغون والدباغون والقصّابون والشعّابون، وقد رسخ فى ذهن العرب أنهم أقذر الأمم. ونرى نفرا منهم يسلمون منذ عهد الإسلام الأول ويذيعون كثيرا من الإسرائيليات التى دخلت فى تفسير القرآن الكريم على نحو ما هو معروف عن كعب الأحبار ووهب بن منبه، وقد استغلها القصاص فى وعظهم للعامة استغلالا واسعا، وكان منهم من أسلم بلسانه ولم يسلم بقلبه، فمضى يسر عداوته للإسلام ويحاول أن يهدمه هدما بما يدخل عليه من عقائد منحرفة وبما يثير من الفتن بين أصحابه مثل عبد الله بن سبأ، وقد لعب دورا واسعا فى فتنة عثمان والتأليب عليه وإحداث أول فرقة فى الإسلام، حتى إذا حدثت أخذ يلقى فى روع بعض الضعفاء والعوامّ أن على بن أبى طالب فوق البشر وأن روح الرسول حلّت فيه، ولما مات قال إنه اختفى وسيعود. وبذلك وضع نواة


(١) انظر هذه الرسالة فى ثلاث رسائل للجاحظ نشر فنكل.

<<  <  ج: ص:  >  >>