للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يردون عليهم ردّا عنيفا (١)، ونعجب أن نرى عربيّا أزديّا يعتنق عقيدة السّمنيّة (٢).

وكانوا يؤمنون بتناسخ الأرواح إيمانا شديدا حتى ليقول البيرونى: «كما أن الشهادة بكلمة الإخلاص شعار إيمان المسلمين والتثليث علامة النصرانية والإسبات علامة اليهودية كذلك التناسخ علم النحلة الهندية، فمن لم ينتحلها لم يك منها ولم يعد من جملتها» (٣) إذ استقر بينهم أن الأرواح تنتقل من جسد إلى جسد تطلب بذلك الكمال، وما تزال تطلبه حتى تستوفى شرف ذاتها وتستغنى عن الاتصال بالأبدان، وحينئذ يتحد العقل والعاقل والمعقول ويصبحون جميعا شيئا واحدا. وقد سقطت هذه العقيدة-كما مر بنا فى غير هذا الموضع-إلى مانى والمانوية كما سقطت إلى بعض الشيعة القائلين بتناسخ النور الإلهى فى الأئمة، وأيضا فإنها سقطت فى هذا العصر إلى الخرمية، وكان يؤمن بها أحمد بن حائط المتكلم صاحب فرقة الحائطية ويدافع عنها دفاعا شديدا (٤). وكان يشيع على ألسنة عامتهم بعض قصصهم كقصة السندباد. وقد تأثرت المانوية-على نحو ما أشرنا فى الفصل السابق- بزهد البوذيين وطرقهم فى النسك وتحريمهم لذبح الحيوان.

وكانت الثقافة الفارسية الشعبية أبعد تأثيرا فى المحيط العربى لهذا العصر، فقد دخل جمهور الفرس فى الإسلام واقتبس العرب كثيرا من صورة حياتهم فى المطعم والملبس وبناء القصور ونظام الخدم والحشم، وكانوا يحتفلون معهم بأعيادهم كما أسلفنا، ويحكون عنهم أقاصيصهم عن رستم وإسفنديار وأخبارهم عن ملوكهم وحكمائهم. وكانت المجوسية لا تزال حية بمعابد نيرانها ونحلها المختلفة من زرادشتية ومانوية ومزدكية وما كانت تجتمع عليه هذه النحل من ثنوية أو إيمان بأن للعالم إلهين: إلها للنور وإلها للظلمة. ونعجب إذ نجد بعض العرب يصبح ثنويّا مانويّا على نحو ما كان صالح بن عبد القدوس. وكان تأثير المزدكية فى المجتمع أشد عمقا، بما كانت تدعو إليه من التحلل الخلقى والعكوف على اللهو والمجون والاندفاع فى إباحية مسرفة.

ولم يختلط العرب باليونان والبيزنطيين إلا اختلاطا محدودا عن طريق الرقيق البيزنطى الذى كان يقع فى الأسر أو يباع فى أسواق النخاسة، وكان تأثيره فى


(١) انظر مثلا الحيوان ٤/ ٧٠ وما بعدها.
(٢) أغانى (طبع دار الكتب) ٣/ ١٤٧.
(٣) تحقيق ما للهند من مقولة ص ٢٤.
(٤) الشهرستانى ص ٤٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>