للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ورثوا ملكه يستنون بعمله. وبذلك امتزجت هذه الثقافة بثقافات الأمم المفتوحة، وتكونت من هذا الامتزاج ثقافة جديدة فيها من فلسفة الإغريق المتشعبة وفيها من ديانات الشرق وروحانياته وأساطيره ومعارفه الفلكية وغير الفلكية. وكانت تقوم على هذه الثقافة الهيلينية قبل الإسلام مدارس مختلفة فى الإسكندرية وقيسارية وأنطاكية والرها ونصيبين وحرّان وجنديسابور، فاتصلت العربية بكل هذا التراث وأخذت تعمل على المزج بينه وبين معارف العرب وآدابهم، واتخذ هذا المزج صورا كثيرة، منها الترجمة ونقل علوم الأوائل وسنعرض لذلك فى موضع آخر.

ومنها تأثر العرب بالمعارف العملية التطبيقية عند الأجانب مما اضطروا إلى الوقوف عليه فى إنشاء المدن وضبط الدواوين وعمل الأساطيل وإعداد الجيوش والنهوض بالزراعة والتجارة. ومنها جدالهم لأصحاب الملل والنحل، فقد كانوا ناشرين للدين الإسلامى، فاضطرمت المجادلات والمناظرات بينهم وبين البوذيين والمجوس والصابئة والنصارى واليهود وغيرهم، وتعرفوا على عقائدهم ونحلهم. وأعمق من ذلك تحول أصحاب النحل والديانات المختلفة إلى الإسلام، فقد تحولوا إليه بتراثهم العقيدى، بل بكل تراث آبائهم الثقافى.

ولا نبالغ إذا قلنا إن كل ألوان الثقافات العامة التى كانت مبثوثة فى البلدان المفتوحة من أواسط آسيا إلى مشارف البرانس تحولت إلى العربية دون حاجة إلى ترجمة منظمة لسبب طبيعى وهو أن شعوب هذه الثقافات تحولوا عربا، فكان طبيعيّا أن تتحول معهم ثقافاتهم وأن لا تنتظر حتى ينظّم لها النقل والترجمة. وأهم هذه الثقافات حينئذ الثقافة الهندية والفارسية واليونانية. وكانت الثقافة الهندية تصل العرب حينئذ عن طريقين: طريق الفرس وما سقط إليهم منها من قديم وطريق من دخلوا منهم حديثا فى الإسلام واندمجوا فى عرب العراق، ومعروف أن جمهور الهنود وثنيون يدينون بالبوذية، ومنهم براهمة (١) ينكرون النبوات ودهريون لا يؤمنون بشئ سوى الدهر وسمنية لا يؤمنون بشئ سوى الحس وقد ناظرهم قديما جهم (٢) ابن صفوان، وظل المعتزلة-على نحو ما يصورهم الجاحظ فى كتابه الحيوان-


(١) انظر فى نحل الهند الشهرستانى ص ٤٤٤ ما بعدها.
(٢) المنية والأمل لابن المرتضى ص ٢١.

<<  <  ج: ص:  >  >>