وحقّا أخذ يفشو اللحن ولكن علماء اللغة كانوا بالمرصاد لكل من يلحن، حتى لكأنهم كانوا يعدّون اللحن إحدى الكبائر، وقد مضوا يسجّلون على كل عالم وكل كاتب وكل شاعر ما تعثر فيه أحيانا من بعض اللحن. وجمع من ذلك «يوهان فك» فى كتابه «العربية» مادة واسعة، ومن ينعم النظر فيها يعرف أن اللحن لم يكن متفشيا فى أوساط المثقفين بل كان محدودا جدّا، إذ مبلغ ما يضاف إلى أى شخص لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة إلا فى النادر. وقد وقف يوهان فك طويلا عندما ساقه الجاحظ فى كتابه «البيان والتبيين» من لكنات بعض الأعاجم، وهى لكنات مردها إلى ما كان يجده نفر منهم من صعوبة فى التكيف العضوى لمخارج الحروف العربية التى لا توجد فى لغاتهم، إذ كان منهم من يبدل الراء غينا والزاى والتاء والشين سينا والعين همزة والقاف كافا أو طاء والجيم زايا أو ذالا والحاء هاء والصاد سينا والظاء زايا واللام ياء. وهذه اللكنات إنما كانت تشيع على ألسنة العامة وقلما سقط منها شئ إلى ألسنة الفصحاء من العرب والموالى.
وهذا نفسه يلاحظ فى اللحن فإنه إنما كان يشيع فى أوساط العامة، وكان علماء اللغة يعنون بتنقية العربية وتصفيتها من الشوائب، وفى ذلك ألف الكسائى كتابه فى لحن العامة، وهو مطبوع
ومما لا ريب فيه أن الفصحى كانت المثل الأعلى للناس فى هذا العصر، وخاصة الطبقة المثقفة، وكان أهم ما دعمها وبسط سلطانها القرآن الكريم، وحتى الشعوبيون والزنادقة اتخذوها لسانهم وأداتهم فى التعبير ولم يحاولوا الخروج على قوالينها. وقد عاش علماء اللغة يحوطونها ويحرسونها حراسة حفظت لها كل مقوماتها الاشتقاقية والتعبيرية والنحوية ومكنتها من الثبات والجريان على الألسنة لا فى الأوساط الثقافية والأدبية فحسب، بل أيضا فى أوساط العامة وبين العناصر التى لم تدخل فى الإسلام مما أحالها وعاء كبيرا لكل ما لقيته من ثقافات فى البيئات التى ذكرناها ومن معارف مختلفة متباينة، وهى معارف امتزجت فيها منذ فتوح الإسكندر عناصر شرقية بعناصر إغريقية مكونة ما يسى باسم الثقافة الهيلينية، ومعروف أن فتوحه شملت مصر وليبيا والشام والعراق وإيران وخراسان وأفغانستان وشطرا من بلاد الهند، وقد عنى بنشر الثقافة الإغريقية فى كل البلدان التى افتتحها ومضى خلفاؤه الذين