للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ظلت حية هى الفارسية، لا بين سكان إيران فحسب، بل أيضا بين سكان الأمصار فى العراق، إذ زحفت إليها منذ عصر بنى أمية جموع كبيرة منهم، وازداد زحفهم فى هذا العصر الذى علا فيه سلطانهم. ويدل على ذلك من بعض الوجوه ما يرويه الجاحظ عن قاصّ من قصّاص البصرة ووعاظها هو موسى الأسوارى إذ يقول:

«كان من أعاجيب الدنيا، كانت فصاحته بالفارسية فى وزن فصاحته بالعربية، وكان يجلس فى مجلسه المشهور به، فتقعد العرب عن يمينه والفرس عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله ويفسرها للعرب بالعربية، ثم يحوّل وجهه إلى الفرس فيفسرها لهم بالفارسية فلا يدرى بأى لسان هو أبين» (١). وكان كثير من العرب أنفسهم يتعلم الفارسية ويحسنها، حتى لنراها تدور فى مجالسهم (٢)، وحتى لنرى الأصمعى العربى القحّ يفهم ما يجرى منها على لسان بعض الفرس (٣). ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إنها كانت تشيع على ألسنة كثيرين فى الحياة اليومية لبغداد والكوفة والبصرة، وبسبب من ذلك ولأنها كانت لغة الحضارة الفارسية دخل منها إلى العربية ألفاظ كثيرة، وخاصة ما اتصل بأسماء الأطعمة والأشربة والأدوية والملابس.

ودخل العربية فى هذا العصر بعض ألفاظ هندية وخاصة فى أسماء النباتات والحيوانات من مثل الآبنوس والببغاء والفلفل كما دخل بعض ألفاظ يونانية وخاصة ما اتصل بأسماء المقاييس والموازين والأمراض والأدوية من مثل القيراط والأوقية والقولنج.

ولم تفسد هذه الكلمات الدخيلة العربية فقد كانت تأتى على هامشها، وكثيرا ما كانت تعرّب بحيث تتفق واللسان العربى، وقد ألف العرب فيها مصنفات كثيرة تمييزا لها وتعريفا بها. ولم يكونوا يعمدون دائما إلى استعارة الأسماء الأجنبية لمدلولاتها التى لم يكونوا يعرفونها، بل كانوا يحاولون فى أحوال كثيرة أن يضعوا لتلك المدلولات أسماء عربية خالصة إما عن طريق الاشتقاق وإما عن طريق التوسع فى مدلولاتها ومعانيها القديمة. وبذلك اتسعت العربية وتحولت من لغة البدو القديمة إلى لغة حضارية مع المحافظة الشديدة على مقوّماتها ومشخصاتها وأوضاعها وأصولها الاشتقاقية والصرفية والنحوية.


(١) البيان والتبيين ١/ ٣٦٨.
(٢) أغانى (طبعة الساسى) ١٧/ ١٩.
(٣) أغانى (طبع دار الكتب) ٥/ ٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>