كانوا يتكلمون القبطية وفى بلاد المغرب كانوا يتكلمون البربرية. وكانت اللغة اليونانية قد أخذت تشيع-منذ غزو الإسكندر-فى الأوساط الثقافية بالشرق كله: فى إيران والعراق والجزيرة والشام ومصر، بينما كانت اللاتينية تشيع فى تلك الأوساط بشمالى إفريقية والأندلس.
ولا نكاد نتقدم فى كل هذه البيئات بعد فتحها بنحو قرن حتى نجد العربية قد ملكت ألسنة الناس وقلوبهم فى جميع أنحائها القريبة والبعيدة، وكان هذا تطورا خطيرا حدث فيها، إذ أصبحت شعوبها جميعا عربية اللغة والتفكير والشعور والثقافة والأدب والحضارة. وقد اختلف إسراعها إلى هذا التعرب باختلاف مواقعها من الجزيرة العربية، فكان أسرعها تعربا العراق والجزيرة والشام، وكان تعربها جميعا قد بدأ فى الجاهلية، فأتمته الفتوح العربية سريعا، فإذا اللغات السامية التى كانت تنتشر فى تلك البيئات وعلى رأسها السريانية تترك مكانها من ألسنة الناس وتنحاز إلى الأديرة وإلى بيئة الصابئة فى حران وبعض المراكز الثقافية القديمة كمدرسة جنديسابور. وتتعرب مصر وبلاد المغرب تدريجا.
وقد أقبل الفرس على التعرب إقبالا منقطع النظير، فقد أكبوا على تعلم العربية حتى أتقنوها واتخذوها سريعا للتعبير عن عقولهم ووجداناتهم بحيث لا نكاد نتقدم فى العصر العباسى حتى يصبح جمهور العلماء والكتاب والشعراء منهم، فهم يقبلون على درس الشريعة الإسلامية ويتألق فيها نجم أبى حنيفة وتلاميذه، وهم يقبلون على جمع العربية وتدوين أصولها النحوية على نحو ما هو معروف عن سيبويه وهم يقبلون على إحسان صناعة الكتابة على نحو ما هو معروف عن ابن المقفع، وهم يقبلون على الشعر بحيث يصبح أعلامه النابهون منهم على نحو ما هو معروف عن بشار وأبى نواس.
وليس معنى ذلك أن جميع أصحاب اللغات القديمة هجروا لغاتهم تماما، فقد ظلت من ذلك بقايا حتى فى أكثر البيئات تعربا أى فى العراق والشام، مما نشأ عنه سقوط بعض كلمات نبطية وآرامية إلى العربية (١). ولعل أهم لغة قديمة
(١) انظر الأغانى (طبع دار الكتب) ٥/ ١٧٦ وقد اشتهر فى أواخر عصر بنى أمية شاعر عربى بكثرة ما كان يدخل فى أشعاره من ألفاظ نبطية هو الطرماح: انظر الموشح للمرزبانى ص ٢٠٨.