للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الخاصة، فحلقة لفقيه وحلقة لمحدث وحلقة لقصاص أو لمفسر وحلقة للغوى وحلقة لنحوى وحلقة لمتكلم، وكانت حلقة الفقهاء من أكبر الحلقات إذ كان يقصده طلاب الفقه ومن يريدون أن يتولوا منصب القضاء أو الحسبة، وكذلك كانت حلقة المتكلمين لما يجرى فيها من مناظرات ومحاورات بينهم أنفسهم وبينهم وبين أصحاب الملل والنحل. وكان يتحلّق كثيرون فى حلقات اللغويين والنحاة، ويقال إنه كان يحضر حلقة ابن الأعرابى الكوفى زهاء مائة شخص (١)، وكثيرا ما كانت تدور فى تلك الحلقات هى الأخرى مناظرات بين أصحابها على نحو ما يروى عن الأخفش من أنه تعرض للكسائى فى حلقة وسأله عن مائة مسألة محاورا له ومناقشا مناقشات مستفيضة (٢). وكانت هناك حلقات للشعراء ينشدون فيها أشعارهم (٣).

وهذه الحلقات الكثيرة التى لم يكن يشترط للحضور فيها أى شرط سوى الرغبة فى السماع والتى كانت مباحة لأى وارد كى يأخذ منها ما يريد من زاد المعرفة هيأت لظاهرتين كبيرتين، أما أولاهما فكثرة العلماء المتخصصين فى كل علم وفن، حتى ليروى أن النضر بن شميل تلميذ الخليل بن أحمد حين عزم على الخروج من البصرة إلى خراسان شيعه نحو ثلاثة آلاف شخص بين محدث ونحوى ولغوى وعروضى وإخبارى (٤)، ولا بد أنه كان وراء هذا العدد الضخم كثيرون تخلفوا عن توديعه وتشييعه. وإذا كانت البصرة قد اشتملت على هذا العدد الوفير من العلماء فإنه مما لا شك فيه أن بغداد كانت تشتمل منهم على أضعاف له مضاعفة.

وتلك هى الظاهرة الأولى، أما الظاهرة الثانية فهى نشوء طائفة من العلماء والأدباء الذين نوّعوا معارفهم تنويعا واسعا، إذ لم يكتفوا بالاختلاف إلى حلقة واحدة، بل مضوا يختلفون إلى جميع الحلقات آخذين بطرف من كل لون من ألوان المعرفة حتى أصبحوا يشبهون الصحفيين المعاصرين الذين يستطيعون أن يتحدثوا حديثا شائقا فى كل صور المعرفة والثقافة. وكان يطلق على هذه الطائفة فى البصرة


(١) إنباه الرواة على أنباه النجاة (طبعة دار الكتب المصرية) ٣/ ١٣٠
(٢) إنباه الرواة ٢/ ٣٧ ومعجم الأدباء ١١/ ٢٢٨.
(٣) الموشح ص ٢٨٩.
(٤) معجم الأدباء ١٩/ ٢٣٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>