للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اسم المسجديين، وكان لهم حلقات خاصة بهم فى المساجد، يسوقون فيها فنونا من الجدال والحوار فى أى شئ يعنّ لهم، وقد عرض الجاحظ فى كتاب البخلاء صورة من جدالهم تناولوا فيها الاقتصاد فى النفقة والتثمير للمال (١). وكانت لهم سوق نافقة فى مجالس الخلفاء والوزراء وعلية القوم، إذ كانوا يستطيعون أن يطرفوهم بالأحاديث الطلية ويروّحوا عنهم فى ساعات صفوهم وغضبهم بما يوردون على سمعهم من طرائف الأخبار والمعارف. ولعلنا لا نبعد إذا قلنا إن ظهور هذه الطائفة وما حظيت به فى المجتمع العباسى هو الذى جعل الجاحظ وغيره يحوّلون كتبهم الأدبية إلى دوائر معارف واسعة، بل لقد استقر فى الأذهان أن الأدب هو الأخذ من كل علم وفن بطرف.

وإذا كان الخلفاء ووزراؤهم قد أغدقوا على هذه الطائفة كثيرا، فإنهم لم يحرموا طائفة العلماء المتخصصين، بل كثيرا ما كانوا يضفون عليهم عطاياهم الجزيلة، وجاراهم فى ذلك الولاة وكبار القواد، وكان أول من سنّ ذلك وجعله تقليدا للدولة المهدى فإنه أكثر من مكافآته للعلماء كثرة جعلتهم يشدّون إليه الرحال من كل بلدة (٢)، واحتذاه فى ذلك ابنه الرشيد، ويقال إنه وصل الأصمعى يوما بمائة ألف درهم (٣) وكان من المحظوظين لدى البرامكة، ويروى أن جعفرا البرمكى وصله بخمسمائة ألف (٤). وكان المأمون سحابة منهلة على العلماء والمتكلمين.

وقد أعطى النضر بن شميل وهو لا يزال أميرا بمر وخمسين ألف درهم (٥). ويروى أن طاهر بن الحسين قائد المأمون وواليه على خراسان وصل أبا عبيد القاسم بن سلام بألف دينار ثم عاد فوصله بثلاثين ألفا، وأجرى عليه ابنه عبد الله عشرة آلاف درهم فى كل شهر (٦).

وليس من شك فى أن هذا الصنيع كان من أهم الأسباب فى ازدهار الحركة العلمية بالمساجد، إذ كان من يبزغ نجمه فى حلقاتها لا يلبث أن يستدعى إلى دار الخلافة أو دار الولاية أو دور الوزراء، فإذا العطايا تسبغ عليه وإذا الرواتب تفرض له شهريّا. وحقّا كان بين علماء الفقه والحديث من لا يبغون بعلمهم وتعليمهم سوى الثواب من الله، ولعله من أجل ذلك شاع بينهم التكسب من الحرف


(١) كتاب البخلاء للجاحظ (طبعة دار الكاتب المصرى) ص ٢٤.
(٢) إنباه الرواة ٢/ ٣٤.
(٣) طبرى ٦/ ٥٤١.
(٤) إنباه الرواة ٢/ ١٩٩ - ٢٠١.
(٥) إنباه الرواة ٣/ ٣٤٩ وما بعدها.
(٦) إنباه الرواة ٣/ ١٦ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>