للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

للمعرفة، إذ كانت تسجّل أمهات العلم وأصوله بما لعله يفضل تلقيه وأخذه عز العلماء، وفى ذلك يقول الجاحظ: «وقد تجد الرجل يطلب الآثار وتأويل القرآن ويجالس الفقهاء خمسين عاما، وهو لا يعدّ فقيها ولا يجعل قاضيا فما هو إلا أن ينظر فى كتب أبى حنيفة وأشباه أبى حنيفة وبحفظ كتاب الشروط فى مقدار سنة أو سنتين حتى تمر ببابه فتظن أنه من بعض العمال وبالحرى أن لا يمر عليه من الأيام إلا اليسير حتى يصير حاكما (قاضيا) على مصر من الأمصار أو بلد من البلدان» (١).

ولم تكن الكتب تعدّ لهذا التحصيل السريع فى الفقه وحده، بل كانت تعد لذلك فى جميع فروع العلم والمعرفة، فطبيعى أن يقبل عليها الناس إقبالا شديدا لما تجمع لهم فى كل فن وكل علم من مادته الغزيرة المنظمة المرتبة، بل لقد أصبحت الأداة الطيعة التى تسوق لهم المعرفة وألوان الثقافة سوقا وهم يكبّون على هذه الأداة أو هذه الوسيلة السهلة منفقين عليها كل ما يستطيعون من أموال مؤمنين بأن «من لم تكن نفقته التى تخرج فى الكتب ألذّ عنده من إنفاق عشاق القيان والمستهترين بالبنيان لم يبلغ فى العلم مبلغا رضيّا، وليس ينتفع بإنفاقه حتى يؤثر اتخاذ الكتب إيثار الأعرابى فرسه باللبن على عياله» (٢).

وأنشأ بعض الورّاقين لهم دكاكين كبيرة ملئوها بالكتب يتجرون فيها، وكان بعض الشباب يغدو إلى هذه الدكاكين لا ليشترى منها فحسب، بل ليقرأ فيها ما لذّ وطاب من صنوف الآداب نظير أجر بسيط يتقاضاه منه صاحبها. وبلغ من عناية الوراقين بعملهم أن موّه بعضهم خطوطه بالذهب، ويذكر الجاحظ أن الزنادقة كانوا يتأنقون فى كتبهم تأنقا شديدا (٣) وكان بعض السراة يطلب هذه الأناقة المسرفة حتى فى كتب الهزل والفكاهة (٤).

ولم تكن الكتب والمساجد كل ما هيأ لازدهار الحركة العلمية حينئذ، فقد هيأ لها أيضا مجالس الخلفاء والوزراء والأمراء والسّراة، إذ تحولوا بها إلى ما يشبه ندوات علمية يتناظر فيها العلماء من كل صنف، على نحو ما يروى من مناظرة


(١) الحيوان ١/ ٨٧.
(٢) الحيوان ١/ ٥٥.
(٣) نفس المصدر والصفحة وما بعدها.
(٤) الحيوان ١/ ٦١.

<<  <  ج: ص:  >  >>