للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من الجدليين والنظّارين كأبى الهذيل العلاّف وأبى إسحق إبراهيم بن سيار النظام وغيرهما ممن وافقهما وخالفهما (يريد من المعتزلة وغيرهم) وألزم مجالسة الفقهاء وأهل المعرفة من الأدباء وأقدمهم من الأمصار وأجرى عليهم الأرزاق (الرواتب) فرغب الناس فى صنعة النظر وتعلموا البحث والجدل، ووضع كل فريق منهم كتبا ينصر فيها مذهبه ويؤيد بها قوله» (١).

وقد كفلت الحرية العقلية فى هذا المجلس أو هذا المجمع إلى أبعد غاية ممكنة، بحيث كان كل رأى يعرض للمناقشة العقلية الخالصة حتى آراء الزنادقة (٢).

ومما لا شك فيه أن المجتمع كان يرتبط حينئذ بالإسلام ارتباطا وثيقا فى جميع شئونه الروحية والاجتماعية، ولكن كأنما أصبح سلطان العقل فوق سلطان الدين، وكل ذلك باعثه الحقيقى رقى الحياة العقلية فى هذا العصر، فإذا كل شئ يناقش فى حرية، وإذا كل شئ يعرض على بساط البحث والجدل.

وكان وراء هذا المجلس الكبير ومجلس يحيى بن خالد البرمكى مجالس صغرى ما يزال يجتمع فيها العلماء ويتجادلون ويتناظرون، من ذلك مجلس أيوب بن جعفر ابن أبى جعفر المنصور، وقد اجتمع فيه يوما النظام وأبو شمر المتكلم، وكانت فى أبى شمر رزانة تجعله لا يحرك يديه ولا منكبيه إذا جادل أو ناظر، فاضطره النظام بما أورد عليه من الحجج وأثقل عليه من البراهين فى مسألة ناظره فيها أن يحرك يديه وأن يحبو إليه حبوا يريد أن يسكته بيده بعد أن أعجزه أن يسكته بالأدلة العقلية (٣)، ومن ذلك مجلس أزدى بالبصرة وفيه يقول صاحب الأغانى: «كان بالبصرة ستة من أصحاب الكلام: عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وبشار الأعمى وصالح بن عبد القدوس وعبد الكريم بن أبى العوجاء ورجل من الأزد، فكانوا يجتمعون فى مجلس الأزدى ويختصمون عنده» (٤) ويتحدث صاحب النجوم الزاهرة عن مجلس آخر فى نفس البلدة، فيقول: «كان يجتمع بالبصرة عشرة فى مجلس لا يعرف مثلهم: الخليل بن أحمد صاحب العروض سنّى، والسيد ابن محمد الحميرى الشاعر رافضى وصالح بن عبد القدوس ثنوى، وسفيان بن


(١) مروج الذهب ٤/ ٢٤٥.
(٢) الحيوان ٤/ ٤٤٢.
(٣) البيان والتبيين ١/ ٩١.
(٤) أغانى (طبع دار الكتب) ٣/ ١٤٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>