للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عقيدة فى هذا العصر يتسلّح فى دفاعه بالفلسفة اليونانية وما يتصل بها من منطق وغير منطق حتى ليقول الجاحظ: «ولا يكون المتكلم جامعا لأقطار الكلام متمكنا فى الصناعة حتى يكون الذى يحسن من كلام الدين فى وزن الذى يحسن من كلام الفلسفة (١)».

وأهم فرق المتكلمين فى هذا العصر فرقة المعتزلة الذين نصبوا أنفسهم للدفاع عن عقيدة الإيمان الإسلامية وما يتصل بها من توحيد الله وتنزيهه عن التشبيه وحقائق النبوة والثواب والعقاب فى الآخرة أمام المرجئة والمجبرة وروافض الشيعة والنصارى واليهود والدهريين الماديين والمانويين الثّنويين. وقد ملئوا بجدالهم وحجاجهم لهم مساجد البصرة وجذبوا بحسن بيانهم وقوتهم فى الإقناع وإفحام الخصوم الشباب شعراء وغير شعراء. ورحل كثير منهم منذ أواخر القرن الثانى إلى بغداد، فخلبوا الألباب هناك ببيانهم الساحر وبما أوردوا على الناس من دقائق الأفكار، وإذا الناس لا حديث لهم غير الاعتزال والمعتزلة ومناظراتهم لأصحاب الملل والنحل فى المساجد الجامعة، وإذا المأمون يعتنق عقيدتهم، حتى شعبة خلق القرآن التى دلع شررها بشر المريسى كما مرّ بنا، وحاول أن يعلنها عقيدة رسمية للدولة.

ولعلنا لا نغلو إذا سمينا هذا العصر عصر الاعتزال، فقد بلغ من ازدهاره أن استولى على صولجان الحكم وأن وجّهه حسب مشيئته، وربما كان ذلك هو الخطأ الوحيد الذى ارتكبه أصحابه، فإنهم وضعوه ووضعوا معه محنة خلق القرآن على رقاب الناس، فكان ذلك سبب سقوطه من حالق. ولكنه إذا كان قد أخفق حين استخدم السيف وغياهب السجون فإنه نجح نجاحا كبيرا فى أن صبغ العقول بصبغة فلسفية وأن مرّنها تمرينا واسعا على دقة التعليل والمهارة فى الاستنباط لخفيات المعانى ودقائقها والبراعة فى تفريعها وتشعيبها وتوليدها، مع القياس الناصع والبرهان الساطع. وسرت من ذلك أسراب فى جميع جوانب الفكر العباسى، إذ أكب الناس على مناظراتهم وأكبّ معهم الشعراء، بل قلما نجد شاعرا نابها فى هذا العصر إلا وتلمذ لهم على نحو ما هو معروف عن بشار وأبى نواس وأبان اللاحقى والعتابى ومنصور النمرى وأبى تمام.

واختلف الباحثون فى سبب تسميتهم معتزلة، فقيل إن ذلك يرجع إلى اعتزال


(١) الحيوان ٢/ ١٣٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>