للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قل لزهير إذا حدا رشدا ... أقلل أو أكثر فأنت مهذار

سخنت من شدة البرودة ح‍ ... تّى صرت عندى كأنك النار

لا يعجب السامعون من صفتى ... كذلك الثّلج بارد حار

ويعلق بقوله: «هذا الشعر يدلّ على نظر أبى نواس فى علم الطبائع، لأن الهند تزعم أن الشئ إذا أفرط فى البرد عاد حارّا مؤذيا، ووجدت فى بعض كتبهم:

لا ينبغى للعاقل أن يغترّ باحتمال السلطان وإمساكه، فإنه إما شرس الطبع بمنزلة الحية إن وطئت فلم تلسع لم يغتر بها فيعاد لوطئها، أو سمح الطبع بمنزلة الصّندل الأبيض البارد إن أفرط فى حكّه عاد حارّا مؤذيا (١)». وأكبر الظن أن ابن قتيبة يريد ببعض كتبهم كتاب كليلة ودمنة الذى ترجمه الفرس عن الهندية، ثم نقله ابن المقفع إلى العربية، على نحو ما مرّ بنا فى غير هذا الموضع، وخلفه أبان بن عبد الحميد فنظمه شعرا بكل ما فيه من قصص وحكم. وكان أثره عميقا فيما صاغه العباسيون من حكم وأمثال، ونرى ابن عبد ربه فى العقد الفريد يتمثل بحكمة منه هى: «إن الحازم يكره القتال ما وجد بدّا منه، لأن النفقة فيه من النفس والنفقة فى غيره من المال» ولاحظ أن أبا تمام نقل هذا المعنى إلى شعره فقال (٢):

كم بين قوم إنما نفقاتهم ... مال وقوم ينفقون نفوسا

وكان تأثير الثقافة الفارسية فى الشعر والشعراء أشد وأقوى من تأثير الثقافة الهندية، إذ كان كثير من الشعراء يتقنون اللغة الفهلوية، لا من يرجعون إلى أصول فارسية فحسب مثل أبى نواس، بل أيضا بعض من يرجعون إلى أصول عربية مثل العتّابى، وكان يعكف على قراءة كتبها، ورآه شخص يوما ينسخ بعض صحفها، فسأله متعجبا: لم تكتب كتب العجم؟ فأجابه منكرا سؤاله: وهل المعانى والبلاغة إلا فى كتب العجم؟ اللغة لنا والمعانى لهم (٣). وقد مضى الشعراء منذ ظهور كتابى الأدب الكبير والأدب الصغير لابن المقفع يتأثرون بما نقله فيهما من تجارب الفرس


(١) الشعر والشعراء ص ٧٧٧.
(٢) العقد الفريد (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر) ١/ ١٤٢.
(٣) كتاب بغداد لطيفور ص ٨٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>