للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يا علىّ بن ثابت بان منّى ... صاحب جلّ فقده يوم بنتا

قد لعمرى حكيت لى غصص المو ... ت وحرّكتنى لها وسكنتا

وقال فيلسوف آخر: «الإسكندر كان أمس أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس». فتمثّله أبو العتاهية فى مرثية أخرى لصديقه على هذا النمط:

بكيتك يا علىّ بدمع عينى ... فما أغنى البكاء عليك شيّا

كفى حزنا بدفنك ثم أنى ... نفضت تراب قبرك عن يديّا

وكانت فى حياتك لى عظات ... وأنت اليوم أوعظ منك حيّا

وقد ذكرنا فى الفصل السابق أن كثيرا من أقوال المسيح فى الأناجيل نقل إلى العربية وتداوله الوعاظ فى وعظهم كما تداوله شعراء الزهد، واستوحوه فى كثير من أشعارهم، من ذلك ما يروى عن المسيح من أن قومه عيّروه بالفقر، فقال: من الغنى أتيتم، واستوحى محمود الوراق هذا المعنى وزاد عليه إيضاحا وتبيينا بقوله (١):

يا عائب الفقر ألا تزدجر ... عيب الغنى أكثر لو تعتبر

من شرف الفقر ومن فضله ... على الغنى إن صحّ منك النّظر

أنك تعصى كى تنال الغنى ... وليس تعصى الله كى تفتقر

وسنعرض فى ترجمتنا لأبى العتاهية وصالح بن عبد القدوس بعض ما دخل على الزهد من عناصر غريبة بوذية أو مانوية.

ولعل أكبر بيئة عنيت بهذه الثقافات المتنوعة، وكان لعنايتها بها أثر واسع فى الشعر والشعراء، بيئة المعتزلة إذ كانت تقوم من الفكر العباسى فى هذا العصر مقام السكان والمجداف من السفينة، فهى تثبرد وتدفعه إلى أن يزيد محصوله من جميع المعارف والمعتقدات، وأن يتمثلها إلى أبعد حد ممكن. وبدءوا بأنفسهم فتثقفوا أروع ما يكون التثقف بكل ما ترجم عن الهنود والفرس واليونان، وعكفوا على الفلسفة اليونانية عكوفا جعلهم يقفون على كل شعبها وكل مناحيها فى الفكر الدقيق، ولم يلبثوا أن استكشفوا لأنفسهم عالمهم العقلى الذى يموج بطرائف الذهن فى جميع


(١) العقد الفريد ٣/ ٢٠٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>