للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المعانى الحسية والعقلية. وكانوا ما يزالون يحاورون أصحاب الملل والنحل فى المساجد الجامعة، ومن حين إلى حين يحاور بعضهم بعضا فى غوامض الفلسفة، مجللين مستنبطين كأروع ما يكون التحليل والاستنباط، وكثيرا ما ردوا على فلاسفة اليونان واشتقوا لهم آراء جديدة، يدعمها العقل الذى شغفوا به وبأدلته وبراهينه، وهو شغف صوره منهم بشر بن المعتمر تصويرا طريفا، إذ يقول (١):

لله درّ العقل من رائد ... وصاحب فى العسر واليسر

وحاكم يقضى على غائب ... قضية الشاهد للأمر

وإن شيئا بعض أفعاله ... أن يفصل الخير من الشّرّ

لذو قوى قد خصّه ربّه ... بخالص التقديس والطّهر

وقد سخّر بشر عقله فى الرد على أصحاب المقالات والنّحل وفى نظم قصائد تدخل فى التاريخ الطبيعى يتحدث فيها عن مشاهد الطبيعة ودلالتها على قدرة الصانع الأكبر. وكان وراءه من المعتزلة شعراء لم يبعدوا بشعرهم عن دوائر الشعر المألوفة من المديح والغزل والهجاء والرثاء والوصف، ولكنهم طبعوا ما نظموه بطوابع جديدة من دقة المعانى ومن غرائب الأخيلة والصور، على نحو ما يلقانا عند العتّابى والنظّام، وسنخص كلاّ منهما بحديث مستقل فى الفصل السابع.

وقد سرت هذه الطوابع فى شعر الشعراء، وخاصة من التحموا منهم بالمعتزلة ومباحث المتكلمين، ويكفى أن نصور ذلك عند ثلاثة من الشعراء النابهين هم:

بشار وأبو نواس وأبو تمام. فأما بشار فكان يعدّ من أصحاب الكلام، وكان يكثر من الاختلاف إلى مجالس واصل بن عطاء رأس المعتزلة، ويستمع إلى ما يجرى فيها من حوار بين أصحاب الملل والنحل سماوية وغير سماوية، وتشوّش عقله، فإذا هو يصبح زنديقا، مما سنعرض له فى ترجمته. وكان من أهم المشاكل التى يحاور فيها واصل خصومه مشكلة الجبر والاختيار، وكان يرفض فكرة الجبر وتعطيل إرادة الإنسان أمام إرادة الله المطلقة، لما يؤدى إليه ذلك من فقدان الإنسان لحريته فى أعماله وأنه كتبها عليه القضاء المحتوم، وأيضا لما يؤدى إليه ذلك من


(١) الحيوان ٦/ ٢٩٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>