للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ظلم الله للناس فهو يكتب عليهم الشقاء ويأخذهم به، والله لا يظلم الناس مثقال ذرة، وما يأتون من أفعال وأقوال إنما يأتونه بإرادتهم وحريتهم، وهم لذلك مسئولون عنه ومحاسبون. وقد مضى بشار فى أشعاره يعارض واصلا فى هذه المشكلة الإنسانية الكبرى، مصرّا على أن الإنسان مسيّر فى رحلته الدنيوية بقضاء يخطّ له غده ومستقبله، وفى ذلك يقول (١):

طبعت على ما فىّ غير مخيّر ... هواى ولو خيّرت كنت المهذّبا

أريد فلا أعطى وأعطى ولم أرد ... ويقصر علمى أن أنال المغيّبا

فأصرف عن قصدى وعلمى مقصّر ... وأمسى وما أعقبت إلا التعجّبا

وربما كان لفقده بصره أثر فى اعتناق هذا المذهب. وأهم من هذه المشكلة وأدخل فيما نحن بصدد الحديث عنه من الطوابع العقلية الدقيقة التى تغلغلت فى الشعراء العباسيين وأشعارهم أننا نجد عنده استدلالات عقلية كثيرة على نحو ما مرّ بنا فى أبيات الصداقة والصديق، كما نجد عنده توليدات وتشعيبات للمعانى التى طرقها القدماء لا تكاد تحصى، مع محاولة الإطراف والإتيان بالمعنى المبتكر والصورة البديعة. ولنقف قليلا عند معنى طول الليل الذى وقف عنده امرؤ القيس، فى معلقته، إذ يقول:

فيا لك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدّت بيذبل (٢)

فهو يتصور نجوم الليل لطوله الشديد كأنما سمّرت، فهى لا تريم. وقد مضى الجاهليون والإسلاميون بعده يتناولون هذا المعنى، وقلما أضافوا إليه إضافة جديدة، حتى إذا كان بشار أخذ يتناوله بطرق مختلفة تدل دلالة بينة على دقة العقل العباسى وقدرته على التعليل والتحليل وأنه يستطيع أن يؤدى المعنى القديم فى معارض جديدة شديدة الروعة، من ذلك قوله (٣):

خليلى ما بال الدّجى ليس يبرح ... وما بال ضوء الصبح لا يتوضّح

أضلّ الصّباح المستنير طريقه ... أم الدّهر ليل كلّه ليس يبرح


(١) أغانى (دار الكتب) ٣/ ٢٢٧.
(٢) مغار: محكم. يذبل: جبل.
(٣) الديوان ٢/ ١٠٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>