للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهو خيال زاخر بالحركة. وفيه تعميم، فقد تحول الدهر ليلا مظلما لا آخر له. ويعود إلى التفكير فى نفس المعنى. وما يزال يلحّ فى التفكير والتخيّل حتى تتكوّن له صورتان جديدتان لا تقلان طرافة عن الصورتين السابقتين، إذ يقول عن نفسه وقد بات ليلة مسهّدة إثر فراقه لإحدى صواحبه (١):

كأنّ جفونه سملت بشوك ... فليس لو سنة فيها قرار

أقول وليلتى تزداد طولا ... أما لليل بعدهم نهار

جفت عينى عن التغميض حتى ... كأن جفونها عنها قصار

ولكن أيكفيه أن يعلل لمعنى طول الليل القديم وما يطوى فيه من السهر بهذه العلل البارعة؟ أو لا ينبغى أن يسلك مسالك المتكلمين والمعتزلة لا فى الإتيان بالعلل الخفية المستورة وإنما فى الإتيان بما ينقض المعنى نقضا من أساسه على شاكلتهم فى محاوراتهم ومداوراتهم؟ وإذن فلينقض ما يقال من طول الليل، إنما هو السهر والسهاد الطويل الذى يخيّل إليه كأن الليل يطول. والليل مظلوم، وفى ذلك يقول: (٢)

لم يطل ليلى ولكن لم أنم ... ونفى عنى الكرى طيف ألم

وتشيع هذه القدرة على التعليل الطريف فى جميع جوانب شعر بشار، كما تشيع معها قدرته على تقليب المعانى والاحتيال للتوليد فيها والتفريع. على شاكلة قوله (٣):

وعىّ الفعال كعىّ المقال ... وفى الصّمت عىّ كعىّ الكلم

فقد جعل العىّ أقساما، فهو لا يكون فى الكلام فحسب بل يكون أيضا فى الصمت حين يكون واجبا ويكون الكلام ثرثرة بل إنه يكون أيضا فى الفعال السقيمة.

ولعل فى ذلك ما يوضح من بعض الوجوه كيف منح المعتزلة ومباحثهم بشارا هذه الطوابع العقلية التى جعلته يمتاز فى شعره بشخصية قوية. ولم يكن ما منحه أبو نواس من تلك البيئة أقل حظّا وقدرا، بل لعله ظفر منها بأكثر مما ظفر بشار،


(١) الديوان ٣/ ٢٤٩.
(٢) أغانى ٣/ ١٥١.
(٣) البيان والتبيين ١/ ٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>