للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واللوعة، ولكنه مع ذلك يكتظ بالحماسة والقوة وتمجيد بطولتهم تمجيدا يضرم الحمية فى نفوس الشباب للدفاع عن العرين حتى الموت، دفاعا يقوم على البأس والبسالة والاستطالة. وكان يحدث أن يخرّ بطل صريعا فى بعض الميادين، حينئذ ينظم فيه الشعراء مراثى حماسية تؤجج لهيب الحفيظة فى القلوب وتدفع إلى الاستشهاد تحت ظلال الرماح ذبّا عن حرمات الوطن، ومن خير ما يمثل ذلك مراثى أبى تمام فى محمد بن حميد الطوسى الطائى، فإنه أوقع ببابك وجنوده لعهد المأمون وقائع ملأته هو وعسكره فزعا ورعبا، ولكن حدث فى آخر وقعة أن اندفع ابن حميد فى مضيق حرج، والتف به جنود بابك، فظل قائما يدافعهم ويقاومهم لا يتزحزح عن موضعه، حتى إذا أحيط به لم يستسلم ولم يلق السلاح، بل قاتل حتى قتل عزيزا كريما. وحزنت الأمة حزنا عميقا لموته، وانبرى أبو تمام يرثيه مراثى رائعة تصور جلده فى القتال وصبره فى النضال حتى الموت الزؤام، على نحو ما يلقانا فى مرثيته العينية، التى استهلها استهلالا بديعا بقوله (١):

أصمّ بك النّاعى وإن كان أسمعا ... وأصبح مغنى الجود بعدك بلقعا (٢)

وفيها يقول:

فتى كلما ارتاد الشجاع من الرّدى ... مفرّا غداة المأزق ارتاد مصرعا (٣)

فإن ترم عن عمر تدانى به المدى ... فخانك حتى لم تجد فيه منزعا (٤)

فما كنت إلا السيف لاقى ضريبة ... فقطّعها ثم انثنى فتقطّعا (٥)

ومن الأبطال الذين بكاهم الشعراء منصور بن زياد، وقد أبلى لعهد الرشيد فى القضاء على ثورة بالقيروان، ووافاه القدر، فرثاه عبد الله بن أيوب التّيمىّ بقصيدة بديعة يقول فى تضاعيفها (٦):

أما القبور فإنهن أوانس ... بجوار قبرك والديار قبور


(١) الديوان (طبعة بيروت) ص ٣٣٥
(٢) المغنى: المنزل. البلقع: الخالى.
(٣) ارتاد: طلب. الردى: الموت.
(٤) المنزع: مكان نزع السهام من القوس والتشبيه واضح.
(٥) الضريبة: الرجل المضروب بالسيف
(٦) ديوان الحماسة بشرح المرزوقى (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر) ص ٩٥٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>