للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الصداقة الدقيقة، وقد تفننوا فى صور اعتذاراتهم مستوحين قدرتهم العقلية فى الحجاج والمنطق، من مثل قول إبراهيم بن سيابة يعتذر للفضل بن الربيع، وكان قد سخط عليه سخطا شديدا (١):

إن كان حرمى قد أحاط بحرمتى ... فأحط بجرمى عفوك المأمولا

فكم ارتجيتك فى التى لا يرتجى ... فى مثلها أحد فنلت السّولا (٢)

وضللت عنك فلم أجد لى مذهبا ... ووجدت حلمك لى عليك دليلا

هبنى أسأت-وما أسأت-أقرّكى ... يزداد عفوك بعد طولك طولا (٣)

فالعفو أجمل والتفضل بامرئ ... لم يعدم الراجون منه جميلا

وواضح أن هذا الاعتذار مكتوب بأقيسة منطقية سديدة.

ولعل الشاعر العباسى لم يعن بموضوع قديم كما عنى بالغزل وتصوير عاطفة الحب الإنسانية التى كانت تخفق بأغانيها صباح مساء العيدان والطنابير والدفوف والمعازف من كل شكل مختلطة بأصوات المغنيات والمغنين على جميع صور الإيقاعات من الشدة واللين. وكانت المغنيات خاصة أو بعبارة أخرى القيان يعبثن بقلبه هن ومن حولهن من الجوارى والإماء، وكان يتصل بهن اتصالا غير مقطوع على نحو ما أسلفنا فى الفصل الثانى، وكل منهن تود لو استحوذت على شاعر، وبادلته حبّا بحب وهياما بهيام. وكاد أن يكون لكل شاعر طائفة من الجوارى يحففن به، وكان منهن كثيرات يحسنّ نظم الشعر، فكن يكتبن أبيات الغزل المثيرة على عصائبهن وثيابهن، وقد يطارحن بعض الشعراء أبيات العشق والصبابة، على نحو ما صوّرنا من ذلك فى غير هذا الموضع.

ومن المحقق أن هؤلاء الجوارى والقيان هن اللائى دفعن المجتمع العباسى فى بعض جوانبه إلى الفساد الحلقى، إذ كن بعشن فى بيوت النخاسة، وكانت دورا كبيرة للعبث واللهو، ولم يكنّ يستمعن فيها إلى ما يعدل بهن إلى السيرة السوية، إنما كن يستمعن إلى أحاديث العشق والصبوة، ومن حولهن الشياطين الذين يستهينون


(١) أغانى (طبع دار الكتب) ١٢/ ٩١.
(٢) السول: السؤل، وهو ما يسأله، وخففت الهمزة للشعر.
(٣) الطول بفتح الطاء: الفضل.

<<  <  ج: ص:  >  >>