للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بكل شئ، بل كان منهم من ينكر أصول الدين إنكارا غارقا فى اللذة والمجون من أمثال بشار وأبى نواس. فطبيعى أن تسوء سيرتهن، أو على الأقل سيرة طائفة منهن، وأن يفتح ذلك الأبواب للغزل الإباحى الذى يدفع إليه الجشع الجسدى والذى لا يدع فارقا بين الإنسان والحيوان، وهو غزل لم يكن يعرفه العرب فى العصور الماضية، عصور الوقار والارتفاع عن درك الغرائز النوعية. حقّا عرفوا الغزل الصريح، ولكنهم لم يبلغوا مبلغ العباسيين فى الصراحة وما وراء الصراحة من الجهر بالفسوق والإثم دون رادع من خلق أو زاجر من دين.

لذلك كان طبيعيّا أن يشيع الغزل الماجن فى هذا العصر، وبلغ من حدّته أن شاع الغزل الشاذ بالغلمان، فحتى هذا الغزل المزرى بكرامة الرجل دار على كثير من الألسنة الدنسة. وقد استطاع تراث الغزل القديم أن يكبح جماح هذه الموجة المادية الحادة من بعض الوجوه، فإن هؤلاء الشعراء الماجنين كانوا يستظهرونه ويتلونه، وكانوا يرون فيه إكبار الرجل للمرأة وإعزازها، بل كانوا يرون فيه حبّا عذريّا عفيفا، كله تحفظ واحتشام، وكله عذاب وآلام. فمزجوا ذلك بنداءات غرائزهم الجسدية.

وأيضا فإنه كان قد ترجم-على ما يظهر-شئ من الحب الأفلاطونى اليونانى، وأخذ مفكرو العرب ومتفلسفتهم يتحدثون عن العشق أحاديث فيها كثير من السمو والسعة والعمق، على نحو ما يلقانا عند المسعودى، إذ أورد مجلسا ليحيى البرمكى تناظر فيه نفر من المعتزلة والمتكلمين وبعض أهل الملل والنحل فى العشق وحقائقه وظواهره وعذابه وحرارته ولطافة صاحبه ورقته ورهافة شعوره (١)، وهو حديث أو هى مناظرة دارت كلها حول العشق العفيف الطاهر الذى يستأثر بالقلوب ويملك عليها أهواءها وعواطفها ومشاعرها. وفى رأينا أن هذه المناظرة ترمز بوضوح إلى ما كان فى ايدى الشعراء من كلام عن الحب النقى البرئ بالإضافة إلى ما وروه عن أسلافهم وخاصة شعراء نجد العذريين من الحب السامى الذى يوقد فى القلوب جذوة لا تنطفئ والذى يدلع فيها جحيما من العذاب لا يطاق. وكل ذلك سرى فى نفوس الغزلين الماجنين من العباسيين، ومضوا يصيفون إليه من خواطرهم الثرية الخصبة ما أذكى جذوته، ومن أجل ذلك كنت تقرأ عند بشار وأبى نواس وغيرهما


(١) مروج الذهب ٣/ ٢٨٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>