للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأبى نخيلة، ولكنه هو الذى مدّ طنبه وفتح أبوابه، لا من حيث كثرة ما نظمه فيه فحسب، بل أيضا من حيث دقة وصفه لأدواته وجوارحه مما جعل الجاحظ ينوّه بطردياته طويلا فى الجزء الثانى من كتابه «الحيوان» وقد أنشد منها طائفة معجّبا ببراعته وحذقه، من مثل قوله فى إحداها (١):

ما البرق فى ذى عارض لمّاح ... ولا انقضاض الكوكب المنصاح (٢)

ولا انبتات الدّلو بالمتّاح ... أجدّ فى السّرعة من سرياح (٣)

يطير فى الجوّ بلا جناح ... يفترّ عن مثل شبا الرّماح (٤)

فكم وكم ذى جدّة لياح ... ونازب أعفر ذى طماح (٥)

غادره مضرّج الصّفاح (٦) ...

وكانت مجالس الخلفاء والوزراء والأمراء تعنى بالنوادر والفكاهات، كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع، وهيّأ ذلك لشيوع روح الهزل فى بعض المقطوعات والقصائد، وكانوا أحيانا يختارون لذلك بعض القصائد التى اشتهرت بقوتها الحماسية مثلا، فيقلبونها فى الدعوة إلى اللهو والتواصى بشرب الخمر (٧)، وأحيانا يختارون موضوعا جادّا، كقصة العشق العذرى الذى كان يفضى بأصحابه-كما يقول القصاص-إلى الجنون أو الموت، فيجرونه على لسان حمار أحب ومات عشقا، مما نلقاه عند بشار، فقد ذكر الرواة أنه مات له حمار، فانتظر حتى اجتمع إليه رفاقه، فأظهر لهم أنه مغموم محزون، وألحوا عليه يريدون أن يعرفوا سبب حزنه وغمه، فقال لهم: إننى رأيت حلما مزعجا: رأيت حمارى فى النوم فقلت له: ويلك! ما لك متّ؟ قال: إنك ركبتنى يوم كذا فمررنا على باب


(١) الحيوان ٢/ ٦٨
(٢) العارض. السحاب. المنصاح: المضئ.
(٣) انبتات الدلو: انقطاعها وهويها. المتاح: الذى يستقى بالدلاء. وسرياح: اسم الكلب الذى يصفه.
(٤) شبا الرمح: حده.
(٥) ذو الحدة: حمار الوحش، والجدة: الخطة السوداء فى ظهره. لياح: أبيض. النازب الظبى. الأعفر: ما يعلو بياضه حمرة طماح. جماح.
(٦) الصفاح: الجوانب. يريد أنه تركه مضرجا بدمائه.
(٧) ابن المعتز ص ٢٢٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>