للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالثقافات التى كان يتصل بها المتكلمون، ومرت بنا أمثلة تصور أخذه من الثقافات الهندية، ولا شك فى أن اتصاله بالثقافتين الفارسية واليونانية كان أكثر عمقا فقد كان فارسى الأصل، وكان يحسن الفارسية إحسانا بعيدا جعله يلوك كثيرا من كلماتها فى أشعاره، ولا بد أنه نظر فيما ترجمه ابن المقفع وغيره من آدابها المختلفة، وأيضا لا بد أنه نظر فى الفلسفة اليونانية وما اتصل بها من منطق بحكم تثقفه بعلم الكلام، إذ كان المتكلم لا يتمكن فى هذا العلم ولا يجمع أفكاره «حتى يكون الذى يحسن من كلام الدين فى وزن الذى يحسن من كلام الفلسفة» (١). وفى خمرياته ما يدل دلالة واضحة على أنه وقف وقوفا دقيقا على طقوس المجوس واليهود والنصارى وعقائدهم (٢). وتفرّغ للنوادر والملح وحفظ منها شيئا كثيرا (٣)، وتصادف أن كان خفيف الروح ظريفا (٤)، مما أعدّه لتكثر مطايباته ومداعباته، وليكون سميرا للخلفاء والوزراء ويصف ذلك من نفسه ليحيى بن خالد البرمكى، فيقول: (٥)

كم من حديث معجب لى عندكا ... لو قد نبذت به إليك لسرّكا

إنى أنا الرجل الحكيم بطبعه ... ويزيد فى علمى حكاية من حكى

أتتبّع الظرفاء أكتب عنهم ... كيما أحدّث من أحبّ فيضحكا

وعلى الرغم من ظرفه لم يكن قريبا من نفس المرأة التى عاصرته، فقد كانت تزدرى فيه غلامياته وسيرته الشاذة، وكانت أول امرأة شغفته حبا، وهو لا يزال فى البصرة يختلف إلى المربد وحلقات العلماء؛ جنان جارية الثقفيين، وعقد أبو الفرج فصلا فى أغانيه (٦)، لأشعاره فيها وأخباره معها، ونراه يرسل لها بغزلياته، وترسل له بسبّها وشتمها، وهو يزداد بها شغفا، حتى ليقول (٧):

أتانى عنك سبّك لى فسبّنى ... أليس جرى بفيك اسمى فحسبى

وقولى ما بدا لك أن تقولى ... فماذا كلّه إلا لحبّى

وغزله فيها غزل عفيف لا فحش فيه. وجذبته بغداد فيمن جذبت من شعراء


(١) الحيوان ٢/ ١٣٤.
(٢) انظر الفن ومذاهبه فى الشعر العربى ص ١٢٣ وأبا هفان ص ٢٥ والديارات للشابشى (طبع بغداد) ص ١٣١.
(٣) ابن المعتز ص ٢٠١.
(٤) ذيل زهر الآداب ص ٩٤.
(٥) ذيل زهر الآداب ص ٢٢.
(٦) أغانى (طبع الساسى) ١٨/ ٢ وما بعدها.
(٧) الديوان ص ٣٦٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>