للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

البصرة، ففارق موطنه إلى غير رجعة لا باكيا عليه ولا آسفا، إذ كانت حياته فيه سلسلة من الإخفاق فى علاقته بجنان وعلاقته بالرفاق حتى كان يشعر كأنه سليب الحرية، وفى ذلك يقول (١):

أيا من كنت بالبصر ... ة أصفى لهم الودّا

ومن كانوا موالىّ ... ومن كنت لهم عبدا

ومن قد كنت أرعاه ... وإن ملّ وإن صدّا

شربنا ماء بغداد ... فأنساناكم جدّا

فلا ترعوا لنا عهدا ... فما نرعى لكم عهدا

ولم يلبث حين قدم بغداد أن قدّمه هرثمة بن أعين إلى الرشيد فمدحه ونال جوائزه، وأخذ ينفقها فى مباذلة، غير تارك حانة بالكرخ أو فى ضواحى بغداد إلا ارتادها، ملمّا من حين لآخر بدير من الأديرة المنبثّة على شواطئ دجلة، وكأنما تحولت حياته إلى حانة كبيرة يقترف فيها كل ما لذّ له من إثم وفجور، وارتقى ذلك إلى سمع الرشيد فحبسه مرارا لعله يزدجر (٢)، ولكنه كان سرعان ما يعود إلى سيرته السيئة حين تردّ له حريته. وقد غضب عليه غضبا شديدا حين رآه يهجو عدنان ويفتخر بقحطان ومواليه اليمنيين، فأطال حبسه (٣)، ثم عاد فعفا عنه، وربما كان للبرامكة أثر فى هذا العفو المتكرر، فقد كانوا يقربونه منهم ويغدقون عليه من برّهم ونوالهم الغمر، ونراه يحزن عليهم حزنا عميقا حين ينكبهم الرشيد سنة ١٨٧ للهجرة ويرثيهم بمثل قوله (٤):

لم يظلم الدهر إذ توالت ... فيهم مصيباته دراكا

كانوا بجيرون من يعادى ... منه فعاداهم لذاكا

ويولّى وجهه نحو الفسطاط بمصر. ليمدح والى الخراج بها الخصيب بن عبد الحميد، وكان فارسيّا مثله. وقد استقبله استقبالا حافلا، وأضفى عليه من


(١) الديوان ص ١٦٦.
(٢) أبو هفان ص ١٠٠ والموشح ص ٢٨٧.
(٣) ابن منظور ص ١٥.
(٤) أبو هفان ص ١٢١.

<<  <  ج: ص:  >  >>