للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حريته (١). وكانت قد تقدمت به السنّ وعلته كبرة وشيخوخة، فأخذ ينيب إلى ربه، وينظم أبياتا مختلفة فى الزهد، وفى أخباره ما يدل على أنه تنسك مرارا، ثم عاد إلى غيّه، وربما رقيت فترات هذا النسك إلى زمن الرشيد، وحين كان يلقى به فى السجن، إذ يقال إنه حجّ سنة ١٩٠ للهجرة (٢)، وكأنما هى صحوات كان يفيق فيها ثم يرجع إلى خطاياه. وتوفى الأمين، ولم يلبث أن توفى من بعده، وقد اختلف الرواة فى تاريخ وفاته (٣)، فمنهم من تقدم به إلى سنة ١٩٥ ومنهم من تأخر به إلى سنة ١٩٩ وقيل بل توفى بعد المائتين بقليل وفى ديوانه رثاء للأمين يشهد بأن وفاته لم تكن قبل سنة ١٩٨. واختلف الرواة أيضا فى سبب وفاته (٤)، فقيل إنه توفى وفاة طبيعية وقيل بل هجا إسماعيل بن نوبخت هجاء مقذعا ذكر فيه أمه ورماه بالبخل والرفض، فدسّ له شربة من سمّ قتلته بعد أربعة أشهر، وقيل بل دسّ له من ضربه حتى مات.

ولعل فيما قدمنا ما يدل بوضوح على أن عناصر كثيرة اشتركت فى تكوين طبيعة أبى نواس، فقد كان فارسيّا حاد المزاج وثقف كل الثقافات التى عاصرها من عربية وإسلامية ومن هندية وفارسية ويونانية ومن مجوسية ويهودية ونصرانية، وغرق فى حضارة عصره المادية وفى آثامها وخطاياها، تدفعه إلى ذلك أزمته النفسية العنيفة إزاء سيرة أمه المنحرفة وكأنما اتخذ من المجون والفسق أداة، بل ملجأ، للهروب من أزمته ومن هموم الحياة وأحزانها، وتردّى فى أسوأ صور المجون ونقصد غزله الشاذ بالغلمان. ونراه أحيانا يعلن تمردا وإلحادا فى الدين، ولكنه إلحاد عابر، لا إلحاد عقيدة كإلحاد بشار، فقد كان بشار زنديقا، وكان يظهر زندقته حين لا يخشى على نفسه، ويبطنها حين يأخذه الخوف، أما أبو نواس فلم يكن يعتنق الزندقة إنما كان يعتنق المجون، ويتعبد لملاذ الحضارة التى عاشها، فصاح بالدين الحنيف كأنه يرى فيه عائقا عن خمره ومجونه وإثمه. وهو من هذه الناحية مضطرب


(١) زهر الآداب ٢/ ١١١ وما بعدها وذيل زهر الآداب ص ١٣٦ وما بعدها والوزراء والكتاب الجهشيارى ص ٢٩٥ وما بعدها.
(٢) أبو هفان ص ٩٨ وانظر النجوم الزاهرة ٢/ ١٥٦.
(٣) ابن منظور ص ٥ والشعر والشعراء ص ٧٨٣.
(٤) أبو هفان ص ٣٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>