للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

القبلية التى عرفها فى نقائضهما والتى طالما سمعها من أبى عبيدة وهو يحاضر فيها طلابه بالبصرة، ونوع ثان كان يجرى فيه فى نفس الدروب التى مهّدها من قبله بشار، إذ نراه يشغب على العرب من جهة، ويحاول أن يطلق على خصومه نفس السهام المسمومة التى كان يطلقها بشار وبعض من عاصروه. وأبو نواس لا يشغب على العرب شغب شعوبية كشعوبية بشار، فشعوبيته-إن صح هذا التعبير-من لون آخر، ذلك أنه لا يوازن بين خشونة البدو وحضارة الفرس كما يصنع بشار وغيره من الشعوبيين الحقيقيين، إنما يوازن بين تلك الخشونة والحضارة العباسية المادية وما يجرى فيها من خمر ومجون كان يعكف عليهما عكوفا، ويأخذ ذلك عنده شكل ثورة جامحة على الوقوف بالرسوم والأطلال وبكاء الديار، ودعوة جارة إلى المتاع بالخمر على شاكلة قوله (١):

عاج الشقىّ على رسم يسائله ... وعجت أسأل عن خمّارة البلد (٢)

يبكى على طلل الماضين من أسد ... لا درّ درّك قل لى من بنو أسد؟

كم بين ناعت خمر فى دساكرها ... وبين باك على نؤى ومنتضد (٣)

دع ذا، عدمتك، واشربها معتّقة ... صفراء تفرق بين الروح والجسد

ونحن نظلم أبا نواس إذا سمينا ذلك-كما ذهب بعض المعاصرين (٤) -شعوبية حقة، إنما هو تماجن وإمعان فى التماجن. ولذلك لم يرفض هو نفسه البكاء على أطلال البادية، بل لقد بكاها كثيرا. وقد دفعته حدة مزاجه إلى الاصطدام بكثيرين من الشعراء وممن كان يمدحهم ويرعى على موائدهم مثل إسماعيل بن نوبخت وكان ما يزال يرميه بالبخل من مثل قوله (٥):

خبز إسماعيل كالوش‍ ... ى إذا ما انشقّ يرفا

عجبا من أثر الصّن‍ ... ‍عة فيه كيف يخفى


(١) الديوان ص ٢٦٦.
(٢) عاج: عطف.
(٣) الدساكر: جمع دسكرة وهى القرية العظمة. النؤى: حفرة حول الخيمة لمنع السيول، منتضد: مكان تجمع الناس، يريد ديار الحبيبة.
(٤) حديث الأربعاء (طبعة سنة ١٩٣٧) ص ١١٣ - ١١٤.
(٥) الديوان ص ١٧٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>