للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تردّه ردّا منكرا عنيفا، وهو كلما ردّته ازداد بها غراما وعليها تهالكا، وكلف بها أشد الكلف، وله فيها مقطوعات بديعة من مثل قوله، وقد رآها تندب فى بعض المآتم (١):

يا قمرا أبصرت فى مأتم ... يندب شجوا بين أتراب

أبرزه المأتم لى كارها ... برغم دايات وحجّاب

يبكى فيذرى الدّرّ من نرجس ... ويلطم الورد بعنّاب (٢)

لا تبك ميتا حلّ فى حفرة ... وابك قتيلا لك بالباب

لا زال موتا دأب أحبابه ... وكان أن أبصره دابى (٣)

وعبثا استطاع يوما أن يلقاها، مما جعله يصطلى حقّا بحبها وناره المحرقة، ويتعذب عذابا طويلا، بثّه فى كثير من أشعاره. ولعلها المرأة الوحيدة التى استأثرت بقلبه وملكت عليه كل شئ من أمره. ونراه فى بغداد يسوق غزلا كثيرا فى إمائها وجواريها، يشوبه بكثير من الفحش الذى ينبو عنه الذوق، حتى مع عنان جارية الناطفى، وكانت شاعرة ظريفة ولها أيام تستقبل فيها الشعراء وتطارحهم الشعر، ممعنة معهم فى كل ما يخوضون فيه من بذاءة تظرفا ومعابثة (٤). وديوانه من هذه الناحية يصور الجوارى المبتذلات اللائى كان يجلبهن النخاسون إلى بغداد، وكانت كثيرات منهن يقبلن على الخلاعة والمجون، وقلما عرفن شيئا من العفة والطهارة.

ويتسع الفحش فى غزل أبى نواس الشاذ بالغلمان، حتى ليصبح وصمة فى جبين عصره، وإن كان ابن المعتز يلاحظ أنه كان يتستّر بذلك عن فسقه الحقيقى بالجوارى الخليعات (٥). وإذا صح ذلك يكون من الخطأ أن تفسّر نفسية أبى نواس على أساس هذه الآفة الشاذة التى كان يتظاهر بها ليخفى حقيقة سريرته وحياته الماجنة. وينبغى أن نلاحظ هنا ما أشرنا إليه فى حديثنا عن إلحاده، فإن كثيرا من غزله المفحش فى الغلمان والنساء جميعا كان ينظمه فى مجالس الخمر تعابثا


(١) أغانى ١٨/ ٦ والديوان ص ٣٦١.
(٢) استعار الدر للدمع والنرجس للعين والورد للخد والعناب لأطراف الأصابع.
(٣) الدأب: الشأن والعادة.
(٤) العقد الفريد ٦/ ٥٧.
(٥) ابن المعتز ص ٣١٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>