للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومجانة، على أننا كثيرا ما نقع فى ثنايا هذا الغزل على أبيات رائعة من مثل قوله (١):

يا من له فى عينه عقرب ... فكلّ من مرّ بها تضرب

ومن له شمس على خدّه ... طالعة بالسّعد ما تغرب

وهو أستاذ فن الخمرية فى الشعر العربى غير مدافع سواء من حيث الكمية أو من حيث الكيفية، فقد عاش للخمر يتغنّى بها، مجاهرا بالفسوق والمجون.

وكان شئ من ذلك قد أخذ يشيع على ألسنة الشعراء منذ ظهور الوليد بن يزيد، ونمّاه بشار ومطيع بن إياس ووالبة بن الحباب وعصاباتهم من المجان فى البصرة والكوفة، غير أن أبا نواس اتسع به اتساعا شديدا، فإذا الخمرية تتكامل صورتها وتفرد لها القصائد والمقطوعات وتصبح فنّا مستقلا، له وحدته الموضوعية، مستعينا فى ذلك بملكاته العقلية الخصبة التى أمدته بكثير من المعانى الدقيقة ومستعينا أيضا بملكاته الخيالية التصويرية البديعة التى رفدته بكثير من التشبيهات والاستعارات البارعة، وحتى إن فاته التصوير النادر والمعنى الدقيق أحيانا فإنه لم تكن تفوته حلاوة النغم ورشاقة اللفظ. وقد مضى يتحدث عن كئوسها ودنانها وعتقها وطعمها ورائحتها ومجالسها مصورا كلفه بها وهيامه وتهالكه على احتسائها من أيدى سقاتها بين آلات الطرب ورنّات القيان، يقول (٢).

إنما العيش سماع ... ومدام وندام

فإذا فاتك هذا ... فعلى الدنيا سلام

فلا حياة فى رأيه سوى حياة الخمر والمجون فى بيوت القيان وفى الحانات، ومن ثمّ مضى يدعو فى خمرياته دعوة واسعة إلى العدول عن وصف الأطلال إلى وصف الخمر والمتاع بما يقترن بها من غناء وسقاة، على نحو ما يصور ذلك فى قوله (٣):

لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند ... واشرب على الورد من حمراء كالورد

كأسا إذا انحدرت فى حلق شاربها ... أجدته حمرتها فى العين والخدّ (٤)


(١) الديوان ص ٤٠٧.
(٢) العقد الفريد ٦/ ٢٢١.
(٣) الديوان ص ٢٦٥.
(٤) أجدته: أفادته وأعطته.

<<  <  ج: ص:  >  >>