للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فى دار موسّعا عليه حتى يصدع لأمره، ويسترسل أبو العتاهية فى استعطافه بمثل قوله (١):

إنما أنت رحمة وسلامه ... زادك الله غبطة وكرامه

لو توجّعت لى فروّحت عنى ... روّح الله عنك يوم القيامة

ويرق له الرشيد ويأمر بإطلاقه، ويأخذ منذ هذا التاريخ فى الإكثار من شعر الزهد وذكر الموت والفناء والثواب والعقاب والدعوة إلى مكارم الأخلاق.

وقد تشكك معاصروه فى هذا الزهد الذى طرأ عليه، وردّته كثرتهم إلى عناصر مانوية، حتى أوشك حمدويه صاحب الزنادقة المانويين أن ينزل به العقاب الصارم الذى كان ينزله بأمثاله، لولا أن موّه عليه بالقعود لحجامة الفقراء والمساكين (٢)، ويقال إن منصور بن عمّار هتف به فى بعض وعظه، وقال: إنه زنديق مستدلا على ذلك بأنه يكثر من ذكر الموت فى شعره ولا يذكر الجنة والنار (٣).

وهى ملاحظة دقيقة، ذلك أن أبا العتاهية يذكر الثواب والعقاب فى الآخرة حقّا، ولكنه لا يفصل الحديث فيهما تفصيل القرآن الكريم، ومن المعروف أن المانوية كانوا يدعون للزهد فى الدنيا والعمل للآخرة كما كانوا يدعون إلى ظاهر حسن كاجتناب الفواحش (٤)، ومن هنا يختلط الموقف على من يقرأ أشعار أبى العتاهية الزاهدة، وخاصة أنه استقى فيها كثيرا من آى الذكر الحكيم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، غير أن من يتعمق فى هذه الأشعار يجد أبا العتاهية مشغولا بما كان يراه المانوية من أن العالم نشأ عن أصلين هما النور والظلمة، ومن النور نشأ كل خير ومن الظلمة نشأ كل شر، وأن أجناس الخير خلاف لأجناس الشر، وفى كل حاسة من حواس الإنسان جنس قائم بنفسه من النوعين، جنس مستقل عما يماثله فى الحواس الأخرى (٥)، وفى ذلك يقول أبو العتاهية (٦):

لكل شئ معدن وجوهر ... وأوسط وأصغر وأكبر


(١) الشعر والشعراء ص ٧٦٧.
(٢) أغانى ٤/ ٧.
(٣) أغانى ٤/ ٣٤.
(٤) طبرى ٦/ ٤٣٣.
(٥) انظر الحيوان ٤/ ٤٤١ والشهرستانى ص ١٨٨.
(٦) أغانى ٤/ ٣٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>