للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أولها أكثرها صحة. ويقال إنه كان يربح ألف ألف درهم فى العام، وما زال بجرجان حتى لبّى داعى ربه سنة ٢٠٨ للهجرة.

وواضح أن مسلما أخذ يعيش فى هناءة ورغد منذ أواخر العقد الثامن من القرن الثانى، فقد انهالت عليه الدنيا وأخذ يظفر بجوائز ضخمة، وما زال يرقى به شعره حتى تولّى جرجان. وفى أخباره وأشعاره ما يدل على أنه كان يقبل على اللهو والطرب، ويفسح فى حياته للحب والغزل، ولكن يظهر أنه لم يكن ينغمس فى ذلك انغماس أبى نواس وأخذانه، فقد كان فيه وقار، وإحساس غير قليل بكرامته.

وكل شئ يؤكد أن حياته فى أسرته كانت تجرى رخاء، فقد رزق ابنة وولدين هما مخلد وخارجة، وسبقته زوجته إلى دار البقاء، فحزن عليها حزنا شديدا، ولعل فى حزنه عليها ما يدل على أنها كانت له شديدة الوفاء والإخلاص.

وفيما قدمنا ما يدل دلالة بيّنة على أن ديوان مسلم لم يحتفظ بكثير من قصائده، فأشعاره فى المأمون والفضل بن سهل مفقودة كما أسلفنا، إلا البيت بعد البيت، وحتى من رويت له فيهم بعض قصائده يظهر أن وراءها قصائد له فيهم سقطت من يد الزمن. ومما يجعلنا نقطع بذلك أننا نجد ابن المعتز يشيد بلاميته السائرة التى أنشدها الرشيد والتى لقّبه كما مر بنا من أجل أحد أبياتها باسم «صريع الغوانى» ويقول إن الرشيد كتبها بماء الذهب (١)، ومع ذلك لم يبق منها فى الديوان إلا مقدمتها، ويصفها ابن المعتز بأنها «مشهورة سائرة جيدة عجيبة». وكأن ديوانه مختارات تتضمن بعض قصائده وبعض مقطوعاته. ويظهر أن العبث بالديوان قديم، حتى ليروى بعض الرواة أن مسلما تغافل راويته يوما وبيده دفتر ديوانه، فقذف به فى بحر! ولهذا قلّ شعره ولم يبق منه بأيدى الناس إلا ما رواه بعض معاصريه العراقيين وإلا ما كان فى أيدى الممدوحين من مدائحه (٢). وربما كان هو نفسه أول من حوّل ديوانه إلى مختارات، إذ كان شديد الحساب لنفسه، وكأنه أسقط كثيرا من أشعاره، حتى لا يبقى له فى أيدى الناس إلا عيون شعره.

ولعل القرن الثانى للهجرة لم يعرف شاعرا جهد نفسه فى صنع الشعر، كما


(١) ابن المعتز ص ٢٣٥.
(٢) انظر ترجمة الأغانى الملحقة بالديوان ص ٣٧٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>