للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جهدها مسلم، فقد أقبل يتمثل نماذج الشعر القديم: جاهليه وإسلاميه بكل معانيه وصوره وأساليبه، وأضاف إلى هذا التمثل تمثلا لا يقل عنه عمقا ولا دقة لنماذج الشعر العباسى عند بشار ومعاصريه. وبذلك التأم القديم والجديد فى نفسه، وعاش ينفق حياته الفنية فى المزج بينهما، مفكرا فى كل التراث الشعرى الذى سبقه وناقدا ومحللا مستنبطا. وهداه ذلك منذ أول الأمر إلى أن يستكشف فى وضوح أدوات البديع والتصنيع من جناس وطباق ومشاكلة وتصوير وأن يجعلها أساسا فى صنع شعره واعترف له القدماء بذلك حتى قالوا إنه «أول من قال الشعر المعروف بالبديع، وهو الذى أعطاه لقبه (١)». وحقّا نجده مبثوثا فى أشعار بشار وأبى نواس وأضرابهما من سابقيه ومعاصريه، ولكنه يأتى عندهم فى الحين بعد الحين، أما عند مسلم فإنه يتخذه وكده وغايته من عمل الشعر. وقد حاول ابن المعتز فى كتابه «البديع» أن يردّ البديع إلى الشعر القديم والقرآن الكريم، فهو عربى الأصول. ولا يمكن لأحد أن يدعى أن مسلما حين استظهر مذهب البديع والتصنيع فى شعره لم يعتمد على أصول تزكّيه، فقد كان منبثّا فى العصور السابقة له، إذ كان الجاهليون والإسلاميون يأتون به فى خفة، ثم عنى به العباسيون منذ بشار، حتى ليجعله الجاحظ زعيم فن البديع، وبه اقتدى مسلم وحذا حذوه (٢). ولا نستطيع أن نجرى مع الجاحظ فى ردّه مذهب البديع إلى بشار، لأنه لم يقصر فنه عليه، ولم يتخذه مذهبا يعيش له ويعيش به، أما مسلم فإنه اتخذه مذهبا له، وفرضه على شعره فرضا منحازا إليه واقفا نفسه على التفكير فيه تفكيرا متصلا معتمدا على حس دقيق وشعور رقيق وعقل مثقف ثقافة ممتازة.

وليس ذلك فحسب فقد أشربت روح مسلم صياغة الشعر القديم بأبنيتها الجزلة الضخمة الناصعة، وتحولت إليه هذه الصياغة بكل ما يجرى فيها من روعة وجمال، فإذا أساليبه معتدلة مستوية ليس فيها أى عوج أو انحراف إنما فيها التناسق الكامل الذى يفتن قارئه بدقته وباتساع جنباته ليبث فيه مسلم بديعه، ولينميه مع روح عصره، وليصبّ فيه نفسه وعقله وخياله، وهو فى ذلك يتكلف


(١) ترجمة الأغانى الملحقة بالديوان ص ٣٦٤.
(٢) البيان والتبيين ١/ ٥١.

<<  <  ج: ص:  >  >>