للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كل ما يستطيع من جهد عنيف وعناء شاق، مراجعا نفسه ومتأنيّا محتاطا، حتى يبلغ كل ما يريد من امتياز على أقرانه. ولعله لم يمنح موضوعا عنايته كما منح المديح وهو فيه يلاثم ملاءمة دقيقة بين ماضى الشعر وحاضره، فيستنفد ما قاله القدماء فى وصف الصحراء والنوق والتشبيب ملتفتا إلى إخراج العباسيين لهذه الموضوعات فى أشعارهم وما أضافوا إليها من وصف الخمر، أو وصف السفن فى طريقهم إلى ممدوحيهم.

حتى إذا خلص إلى المديح أخذ ينفذ من خلال معانيه القديمة والحديثة إلى عرض جديد رائع يصوّر زاده الأصيل من التراث الفنّى مضيفا كثيرا من المعانى والصور البديعة، واقرأ له هذه القطعة من لاميته الطويلة العجيبة فى يزيد بن مزيد وتصوير فروسيته وكرمه وما ينزل بالأعداء من تقتيل ساحق ما حق وما يتسم به من مروءة كاملة:

لولا يزيد لأضحى الملك مطّرحا ... أو مائل السّمك أو مسترخى الطّول (١)

يغشى الوغى وشهاب الموت فى يده ... يرمى الفوارس والأبطال بالشّعل (٢)

موف على مهج فى يوم ذى رهج ... كأنه أجل يسعى إلى أمل (٣)

لا يرحل الناس إلا نحو حجرته ... كالبيت يفضى إليه ملتقى السّبل (٤)

يكسو السيوف دماء الناكثين به ... ويجعل الهام تيجان القنا الذّبل (٥)

قد عوّد الطّير عادات وثقن بها ... فهنّ يتبعنه فى كل مرتحل

تراه فى الأمن فى درع مضاعفة ... لا يأمن-الدهر-أن يدعى على عجل

لا يعبق الطّيب خدّيه ومفرقه ... ولا يمسّح عينيه من الكحل (٦)

فإنك تشعر بضخامة البناء وقوة الحبك وأن مسلما يتسلط على كلماته ومعانيه وصوره، فلا نبوّ ولا قصور وإنما ضبط وإحكام. وهو يستمد صورته فى البيت


(١) مطرحا: مخذولا. الطول: الحبال. وقد ضرب السمك والطول مثلا لاستقامة الأمر كاستقامة الخيمة حين يقوم عمودها وتشد حبالها.
(٢) شهاب الموت: السيف. وأراد بالشعل الهيب المتساقط من الشهاب.
(٣) المهج: الأرواح. الرهج: غبار الحرب.
(٤) يريد أن الطرق تلتقى براكبيها عند الممدوح لجوده الغمر.
(٥) الهام: الرءوس. الذبل: الرقيقة الحادة.
(٦) لا يمسح عينيه من الكحل: لا يكتحل.

<<  <  ج: ص:  >  >>