للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شجاعته لضرب رائع من جوده وكأنما الجود شريعته حتى بروحه الزكية. ومن رائع مديحه قوله فى الفضل بن جعفر البرمكى:

تساقط يمناه النّدى وشماله ال‍ ... رّدى وعيون القول منطقه الفصل (١)

عجول إلى ما يودع الحمد ماله ... يعدّ النّدى غنما إذا اغتنم البخل

بكفّ أبى العباس يستمطر الغنى ... وتستنزل النّعمى ويسترعف النّصل (٢)

والأبيات من طراز بنائه الضخم، وهى متينة السبك، قوية الحبك، وانظر فى البيت الأول كيف صوّر تصويرا بديعا كرم الفضل وشجاعته وبلاغة بيانه، وقد طابق فى البيت الثانى بين الكرم والبخل، وعاد فى البيت الثالث إلى تركيزه الشديد وتجميعه المعانى الكثيرة فى الألفاظ القليلة، مع قوة تجسيمها وتجسيدها. ومن بارع مديحه قوله فى إسماعيل البرمكى:

وإنى وإسماعيل يوم وداعه ... لكالغمد يوم الرّوع فارقه النّصل

فإن أغش قوما بعده أو أزرهم ... فكالوحش يدنيها من الأنس المحل (٣)

يقول ابن المعتز: «وهذا معنى لا يتفق للشاعر مثله فى ألف سنة (٤)». وفى نفس هذه القوالب القوية كان يصوغ مراثيه على شاكلة قوله فى رثاء يزيد بن مزيد:

نفضت بك الآمال أحلاس الغنى ... واسترجعت نزّاعها الأمصار (٥)

أجل تنافسه الحمام وحفرة ... نفست عليها وجهك الأحفار (٦)

فاذهب كما ذهبت غوادى مزنة ... أثنى عليها السّهل والأوعار (٧)

والصورة فى البيت الأول دقيقة، فقد أراد أن يصور قعود المعتفين والسائلين عن الرحلة فى طلب نواله، فقال إن الآمال نفضت أحلاس الغنى، أى أنها لم تعد


(١) الندى: الكرم. الردى: الموت.
(٢) يسترعف: يقطر دما. النصل حد السيف.
(٣) الأنس: بفتح الهمزة كالأنس بضمها، المحل: الجدب.
(٤) ابن المعتز ص ٢٣٦.
(٥) أحلاس جمع حلس وهو كساء يوضع على ظهر البعير تحت الرحل. نزاعها: الذين ينزعون إليه ويفتربون عن أوطانهم.
(٦) الحمام: الموت.
(٧) المزنة: السحابة الممطرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>