للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تهّيئ الإبل للارتحال نحوه. وجعل فى البيت الثانى الموت والقبر يتنافسان عليه، كل يريد أن يحوزه إليه، ولم يلبث أن جعل جميع القبور تنفس على قبره جسده الغالى. ودعا له متمثلا جوده الذى عمّ به الناس كما تعم السحابة بوابلها السهل والوعر. ومن دقائق معانيه فى الرثاء قوله:

ومخادع السمع النّعى ودونه ... خطب ألمّ بصادق لا يخدع

وهو يصور فى البيت ذهول الصديق حين يأتيه نعى صديقه فيفزع إلى تكذيبه، ثم يثوب إلى رشده. وقد بدأ حياته بنقائض فى الهجاء ناقض بها ابن قنبر، وهو فى هذه النقائض يصدر عن روح النقائض القديمة عند جرير والفرزدق وما يطوى فيها من عصبيات، ويتكافّان فلا يعود إلى هذا النمط القديم، بل يأخذ فى النمط المستحدث الذى وصفناه فى غير هذا الموضع والذى كان يجرى فى أبيات قصيرة تشبه السهام المسمومة، كقوله فى دعبل تلميذه وقد فسد ما بينهما:

أما الهجاء فدقّ عرضك دونه ... والمدح عنك كما علمت جليل

فاذهب فأنت طليق عرضك إنه ... عرض عززت به وأنت ذليل

وتروى له أبيات فى هجاء يزيد بن مزيد، وأكبر الظن أنها منتحلة أو لعلها أضيفت إليه خطأ، ويظهر أنه مدح موسى بن خازم بن خزيمة وسعيد بن مسلم ابن قتيبة، فلم يبرّاه، واستشاط غضبا، فرماهما بسهام لاذعة من هجاء مرير، على شاكلة قوله فى موسى:

لو أنّ كنز البلاد فى يده ... لم يدع الإعتذار بالعدم (١)

وقوله فى سعيد:

وأحببت من حبّها الباخل‍ ... ين حتى ومقت ابن سلم سعيدا (٢)

إذا سيل عرفا كسا وجهه ... ثيابا من اللّوم صفرا وسودا (٣)

وكان لا يزال يدقق فى معانى الهجاء حتى يقع على معنى نادر يروع سامعيه،


(١) العدم: فقدان المال.
(٢) سيل: سئل، خفف. العرف: المعروف والجود.
(٣) ومقت: أحببت.

<<  <  ج: ص:  >  >>