للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وواضح استمداده من قانون الأضداد فى وصف حريقها ليلا، وهو استمداد تخلق فى تضاعيفه هذا الخيال بل الحلم العجيب، فهو فى الليل البهيم ويتصور كأنه فى الصبح المضئ، بل هو فى الضحى المنير، وكأنما خلع الليل ثيابه بل لكأنما رغب عنها، بل كأن الشمس لم تغب ولم تغرب، بل لقد غربت ولم تلبث أن أشرقت فى ربوع عمورية. فيا للحلم ويا لروعته، وإن نشوة الظفر ليجرى رحيقها فى نفسه، فإذا هو يحس إزاءها نفس أحاسيس ذى الرمة إزاء مية التى شغفت قلبه حبّا. وقد مضى يصور قوة المعتصم وجنوده، وكيف فر تيوفيل بفلول جيشه أمامه وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وما زال يصور فتك المعتصم بجيوشه وأبطاله، حتى قال والجدل يغمره:

خليفة الله! جازى الله سعيك عن ... جرثومة الدين والإسلام والحسب (١)

بصرت بالرّاحة الكبرى فلم ترها ... تنال إلا على جسر من التّعب

إن كان بين صروف الدّهر من رحم ... موصولة أو ذمام غير منقضب (٢)

فبين أيامك اللاّتى نصرت بها ... وبين أيام بدر أقرب النّسب

أبقت بنى الأصفر الممراض كاسمهم ... صفر الوجوه وجلّت أوجه العرب (٣)

وعواطفه الدينية والقومية بارزة فى هذه الأبيات الأخيرة، بل إنها لتبرز فى جنبات الملحمة جميعها، وإنه ليهدر فيها هدير الظافر المبتهج الذى تبددت أمامه جحافل الأعداء وانجابت غياهب الظلام وحلت مكانها أضواء النصر فى كل مكان.

وإذا تركنا ملاحمه إلى مدائحه الأخرى وجدناه يلائم دائما بين مدحه وممدوحه، فإذا مدح كاتبا شاعرا مثل الحسن بن وهب نوه بأدبه وبلاغته ودرر لفظه ومعانيه، وكذلك الشأن فى مدحه لابن الزيات، وكان هو الآخر كاتبا شاعرا، وجلّى فى وصفه لقلمه الذى أنشدنا منه قطعة فى الفصل الرابع والذى استهله بقوله (٤):


(١) جرثومة: أصل.
(٢) صروف الدهر: أحداثه. منقضب: منقطع.
(٣) بنو الأصفر: الروم.
(٤) الديوان ٣/ ١٢٢ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>