للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى نحائزهم وسلائقهم التى طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب، ألا ترى أنك لا تجد فى كلامهم عنعنة تميم ولا عجرفية (١) قيس ولا كشكشة أسد ولا كسكسة ربيعة (٢)». ويقول ابن خلدون: «كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرحها لبعدها عن بلاد العجم من جميع جهاتهم» فصانها بعدها عن الأعاجم من الفساد والتأثير بأساليب العجم «حتى إن سائر العرب على نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغتهم فى الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية (٣).

وفى رأينا أن المستشرقين جانبهم التوفيق فى الحدس والفرض حين رفضوا نظرية العرب فى أن الفصحى هى عين اللهجة القرشية، فقد ذهبوا يطلبونها فى لهجات القبائل النجدية، متناسين أن شيوع لهجة بعينها لا بد أن تقترن به حالة سياسية أو روحية أو حضارية، تهيئ لها هذا الشيوع والانتشار، بحيث تصبح لغة الفكر والشعور للجماعة الكبيرة، فتتخذها أداة لأدبها بينما تظل تتحدث فى حياتها بلغتها المحلية. وما تزال اللغة الأدبية فى الذيوع، حتى تظفر بتلك اللغات المحلية التى تستخدم فى الحياة اليومية العملية.

ونحن إذا طلبنا سببا لتفوق لغة قبيلة فى نجد على جميع اللغات واللهجات المجاورة لها أعوزنا ذلك كما أعوز المستشرقين، بينما إذا طلبنا ذلك فى قريش وجدنا أسبابا كثيرة تعين عليه، فقد كانت مهوى أفئدة العرب فى الجاهلية، وكان لها عليهم نفوذ واسع بسبب مركزها الدينى الروحى والاقتصادى المادى، إذ كانت حارسة الكعبة بيت عبادتهم، وكانت قوافلها تجوب أنحاء الجزيرة العربية، وكان العرب يجتمعون إليها فى أعيادها الدينية وفى أسواقها القريبة والبعيدة.

ومعنى ذلك أن هناك أسبابا دينية واقتصادية أعدت لهجة مكة لتسود اللهجات القبلية فى الجاهلية، وقد تداخلت فيها أسباب سياسية، فإن القبائل العربية كانت


(١) العجرفية: التقعر وطلب لك فيها الوحشى من الكلام.
(٢) انظر الصائبى فى فقه اللغة (طبعة المؤيد) ص ٢٣.
(٣) راجع الفصل الثانى والثلاثين من القسم السادس فى مقدمة ابن خلدون ص ٤٠٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>