ترى تحت أعينها هجوم الدول المجاورة من الفرس والروم والحبش على أطرافها، كما كانت ترى هجوم الديانتين المسيحية واليهودية على دينها الوثنى، فتجمعت قلوبها حول مكة، وهوت أفئدتها إليها. وبذلك كله تهيأ للهجة القرشية أن يعلو سلطانها فى الجاهلية اللهجات القبلية المختلفة، وأن تصبح هى اللغة الأدبية التى يصوغون فيها أدعيتهم الدينية وأفكارهم وأحاسيسهم. وقد تدل على ذلك بعض الدلالة سوقها عكاظ، فقد كانت سوقا أدبية كما كانت سوقا تجارية، وكان الخطباء يرتجلون فيها خطبهم وينشد الشعراء قصائدهم، ولم يرو ذلك عن سوق سواها. ومما يدعم هذا الدليل ما قاله الرواة من أن العرب «كانت تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولا، وما ردوه منها كان مردودا، فقدم عليهم علقمة بن عبدة التميمى، فأنشدهم قصيدته: «هل ما علمت وما استودعت مكتوم» فقالوا: هذا سمط الدهر، ثم عاد إليهم العام المقبل فأنشدهم قصيدته:
«طحابك قلب فى الحسان طروب» فقالوا: هاتان سمطا الدهر (١)».
وإذن فنحن لا نعدو الواقع أإذا قلنا إن لهجة قريش هى الفصحى التى عمت وسادت فى الجاهلية لا فى الحجاز ونجد فحسب، بل فى كل القبائل العربية شمالا وغربا وشرقا، وفى اليمامة والبحرين. وسقطت إلى الجنوب وأخذت تقتحم الأبواب على لغة حمير واليمن وخاصة فى أطرافها الشمالية حيث منازل الأزد وخثعم وهمدان وبنى الحارث بن كعب فى نجران. ومما بؤكد ذلك أن الوفود اليمنية التى وفدت على الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدّثنا رواة الأخبار والسيرة النبوية أنها كانت تجد صعوبة فى التفاهم معه، وأيضا فإنه كان يرسل إليهم دعاة يعظونهم ويعلمونهم الشريعة الإسلامية من مثل معاذ بن جبل، ولو أنهم لم يكونوا يعرفون العربية الفصحى لكان إرسال هؤلاء الدعاة عبثا. وكل هذه دلائل تدل على أن حركة تعريب واسعة فى الجنوب حدثت قبيل الإسلام.
أما فى الشمال فقد كانت الفصحى معروفة فى كل مكان، وكان الشعراء يتخذونها لغة لشعرهم، ومما يدل على ذلك دلالة قاطعة سرعة استجابتهم للقرآن الكريم ودعوته، فإنهم كانوا يفهمونه بمجرد سماعه، فإذا عرفنا أنه نزل بلغة