للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكاتبا جيد الرسائل حاذقا، وقلما يجتمع هذا لأحد، وما سمعت كلاما قط لأحد من المتكلمين أحسن من كلام العتابى. . فإنه كان فحل الشعر جيد الكلام» ويقول أبو الفرج عنه: «شاعر مترسل بليغ مطبوع متصرّف فى فنون الشعر ومقدّم من شعراء الدولة العباسية». ويقول الجاحظ: «ومن الخطباء الشعراء ممن كان يجمع الخطابة والشعر الجيد والرسائل الفاخرة مع البيان الحسن كلثوم بن عمرو العتّابى، وكنيته أبو عمرو، وعلى ألفاظه وحذوه ومثاله فى البديع يقول جميع من يتكلف مثل ذلك من الشعراء المولّدين كنحو منصور النمرى ومسلم بن الوليد الأنصارى وأشباههما، وكان العتابى يحتذى حذو بشار فى البديع». ويقول فى موضع آخر من بيانه: «العتابى يذهب شعره فى البديع».

والجاحظ لا يقصد بالبديع المحسنات المعروفة من الجناس والطباق والتصاوير فحسب، بل يقصد أيضا المعانى الطريفة النادرة التى أتاحت للعتابى ثقافته الواسعة اجتلابها وعرضها فى معارض تمتع النفس وترضى العقل والقلب. وأول ما نقف عنده مديحه، وقد طارت له فيه قصيدة فى الرشيد نظمها حين سخط عليه لثورة الوليد بن طريف التى أشرنا إليها فيما أسلفنا، وهو يستهلها بذكر الأطلال والنسيب على هذه الشاكلة:

ماذا شجاك بحوّارين من طلل ... ودمنة كشفت عنها الأعاصير (١)

شجاك حتى ضمير القلب مشترك ... والعين إنسانها بالماء مغمور (٢)

فى ناظرى انقباض عن جفونهما ... وفى الجفون عن الآماق تقصير

لبست أردية النّوّار من طلل ... وزلت أخضر تعلوك الأزاهير (٣)

وواضح ما فى هذا المطلع من دقة فى التفكير، فهو يصور شجو نفسه وحزنها حين ألم بالطلل، ويطيل فى هذا التصوير، محاولا النفوذ إلى خيال بديع على نحو ما يتضح فى البيت الثالث، وهو لا يعنى بدقة الفكر والخيال وحدهما بل يعنى أيضا بدقة الحسّ على نحو ما نرى فى دعائه الرقيق للطلل بأن يظل مكسوّا


(١) حوارين: من قرى حلب. والدمنة. آثار الديار.
(٢) مشترك: مهموم.
(٣) أردية: ثياب.

<<  <  ج: ص:  >  >>