للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العسرة العقيمة حتى لكأنما يستولدها ما اكتنّ فى أعماقها وأرحامها من حلول خفية، كما يصور حزمه ونفوذه من الخطوب نفوذ السهم الصائب. وواضح ما يعنى به العتّابى من دقة فى معانيه وطرافة، ويروى أنه دخل سرّا مع المتظلمين إلى الرشيد فى بعض سخطاته عليه، فأنشده:

أخضنى المقام الغمر إن كان غرّنى ... سنا خلّب أو زلّت القدمان (١)

أتتركنى جدب المعيشة مقترا ... وكفّاك من ماء النّدى تكفان (٢)

وتجعلنى سهم المطامع بعد ما ... بللت يمينى بالنّدى ولسانى

فأعجب الرشيد قوله، وأجازه جائزة سنية. وكان جعفر البرمكى أو أبوه يحيى شفع له عند الرشيد فى موجدة له أخرى عليه، كما أشرنا إلى ذلك آنفا، فقال يمدحه:

ما زلت فى غمرات الموت مطّرحا ... قد ضاق عنى فسيح الأرض من حيلى (٣)

ولم تزل دائبا تسعى بلطفك لى ... حتى اختلست حياتى من يدى أجلى

وهذا البحث عن المعانى النادرة أشاع فى شعر العتابى ظاهرة لم تكن مألوفة هى قصر المدائح وغير المدائح مما يلم به من أغراض الشعر حتى لتصبح بيتين أو ثلاثة فى كثير من الأحيان، وكأنما يتشبه فى ذلك بالأمثال الفارسية القصيرة التى كان يعكف عليها والتى يمثلها خير تمثيل كتاب الأدب الصّغير لابن المقفع، ومما يصوّر ذلك عنده أجمل تصوير ما يروى من أنه دخل على عبد الله بن طاهر يوما فأنشده مادحا:

حسن ظنّى وحسن ما عوّد اللّ‍ ... هـ سواى منك الغداة أتى بى

أىّ شئ يكون أحسن من حس‍ ... ن يقين حدا إليك ركابى

ثم دخل عليه من الغد، فأنشده البيتين التاليين اللذين أنشدناهما فى الفصل السادس:


(١) المقام الغمر: المقام الشديد. سنا خلب: ضوء البرق الذى لا يعقبه مطر.
(٢) مقترا: ضيق الرزق. الندى: الجود. تكفان: تهلان وتسيلان.
(٣) غمرأت: شدائد.

<<  <  ج: ص:  >  >>