للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويقف مرارا ليصور سوء حظه وأنه أينما اتجه لم يكسب شيئا، بل يقعد به العدم الذى تعوّده ويقعد به سوء البخت الذى يلازمه فى حلّه وترحاله، حتى ليجفّ البحر الذى يخوضه، وحتى ليستحيل الدر فى يده حصى وزجاجا والماء العذب ملحا لا يسوغ شرابه، وفى ذلك يقول:

لو ركبت البحار صارت فجاجا ... لا نرى فى متونها أمواجا

ولو أنى وضعت ياقوتة حم‍ ... راء فى راحتى لصارت زجاجا

ولو أنى وردت عذبا فراتا ... عاد لا شك فيه ملحا أجاجا

ويصور لنا مسغبة عياله، وهو فى الواقع إنما يصور مسغبة الطبقة العامة فى بغداد التى كانت تكدح لتملأ الطبقة المترفة بطونها، بينما تعيش هى فى الضنك والشقاء، متمنية أن تجد الخبز والإدام، بل قد تعدم الإدام والخبز جميعا، ومن طريف تصويره لذلك قوله:

ما جمع الناس لدنياهم ... أنفع فى البيت من الخبز

والخبز باللّحم إذا نلته ... فأنت فى أمن من التّرز (١)

وقد دنا الفطر وصبياننا ... ليسوا بذى تمر ولا أرز

كانت لهم عنز فأودى بها ... وأجدبوا من لبن العنز (٢)

فلو رأوا خبزا على شاهق ... لأسرعوا للخبز بالجمز (٣)

ولو أطاقوا القفز ما فاتهم ... وكيف للجائع بالقفز

ويكثر من حديثه عن البراغيث ولذعها لجسده، كما يكثر من حديثه عن خلو داره من الطعام، حتى لتعبث بها الجرذان وابن عرس، بل إنها لتدرج من حوله وتعبث ببعض جسده، وتيأس منه ومن طعامه، فتفر على وجهها تبحث عن غذائها، ولا يبقى معه فى البيت سوى السنور أو الهرّ، وإنه ليبكى


(١) الترز: الهلاك.
(٢) أودى بها: هلكت.
(٣) الجمز: القفز.

<<  <  ج: ص:  >  >>