كما أسلفنا فى غير هذا الموضع-يحاولون الثورة جهارا على أبناء عمهم، بل عمدوا إلى السرية خوفا من بطشهم وما عوّدوه الناس من إقناعهم بالسيف دون اللسان. وتضاءلت حينئذ-كما قدمنا-حركات الخوارج، فلم يكن هناك إلا السيف أو الإذعان. وبذلك كمّمت الأفواه، وضعفت الخطابة السياسية فى هذا العصر ضعفا شديدا، لأنها إنما تزدهر حين تكفل للناس حرياتهم السياسية على نحو ما كان الشأن فى عصر بنى أمية، أما فى هذا العصر فقد أخذ العباسيون الناس بالشدة فضعفت الأحزاب السياسية وفنيت أو ذابت حريتهم فى سلطانهم الباطش بكل من حدثته نفسه بخروج عليهم بل بخلاف أو ما يشبه الخلاف، وحقا عادت الخطابة السياسية إلى الظهور فى فتنة الأمين وحروبه مع أخيه المأمون، ولكن لم تعد لها قوتها القديمة فى العصر الأموى وما كانت تمتاز به من روعة تجذب الناس إلى الاستماع لكلام الخطيب والفتنة بأساليبه.
وعلى نحو ما ضعفت الخطابة السياسية ضعفت الخطابة الحفلية التى كنا نعهدها فى عصر بنى أمية لسبب طبيعى، وهو أن وفود العرب لم تعد تفد على قصور الخلفاء، وبالتالى لم يعد خطباؤها يفدون عليهم، فقد أسدلت الحجب بين الخليفة والرعية، ولم يعد يلقى وفودها ولا خطباءها المفوّهين. واقتصرت الخطابة الحفلية حينئذ على بعض مناسبات كأن يموت للخليفة ابن أو بنت فيقف بعض الخطباء لتعزيته، وكأن يموت خليفة ويتولى خليفة جديد فيجمع بعض الخطباء بين التعزية والتهنئة، من مثل قول ابن عتبة للمهدى يهنئه بالخلافة ويعزيه فى أبيه المنصور (١):
«آجر الله أمير المؤمنين على أمير المؤمنين قبله، وبارك لأمير المؤمنين فيما خلفه له أمير المؤمنين بعده، فلا مصيبة أعظم من فقد أمير المؤمنين، ولا عقبى أفضل من وراثة مقام أمير المؤمنين، فاقبل يا أمير المؤمنين من الله أفضل العطية، واحتسب عنده أعظم الرزيّة».
وكان يعقد لبيعة الخليفة حفل عام يحضره القواد وكبار رجال الدولة، وعادة يقف بعض الكتاب النابهين خطيبا بين يدى الخليفة الجديد منوّها بجلال الخلافة وإرث الخليفة لها وما له على القواد ورجال الدولة والناس من الطاعة علويين